حينما يصل قارئ الفاتحة إلى هذه الآية يكون قد تشبّع بالحمد، وامتلأ به صدره وعقله، وسرى في بدنه كلِّه ذلك اليقين أنّه بين ألوهيةٍ، وربوبيةٍ، ورحمانيةٍ، ورحيميةٍ، ومِلكيةٍ، وأنّه ليس له بعد هذه الصّفات والأسماء من خيار إلاّ أن يعلن هذا الإعلان القوي، الذي يخطه اليّقين الإيماني في صدره، وقلبه، وعقله. فمنهجه الآن واضحُ الخطوات، بيّنُ الأفعال. إنّه يجد في نفسه أنّه عابدٌ ومستعينٌ.
لقد فصل السّادة المفسرون القول في هذا الأسلوب من القول، وفي هذه البلاغة من الحصر، غير أنّنا لن نتوقّف عند ذلك، لأنّه متاحٌ لكلّ من يريد أن يعرف الوجه النّحوي والبلاغي في هذه الآية. لأنّ ما نترصّده فيها نريدُه أن يكون تفسيرا لهذه الكلمة وهي تخرج من صدر صاحبها بهذه القوة وهذا اليقين، كما خرجت كلمة (الحمد لله) من قبل. ف (الحمد لله) خرجت بعد جولانٍ وتدبرٍ في حقيقة الله عزّ وجلّ: في خلقه، وتدبيره، وإبداعه، وتسويتِه، وهدايتِه. إلى غاية التّشبع التي دفعت بالكلمة إلى اللّسان ليلهجَ بها قائلا: الحمدُ لله. ثم ها هو في هذا الموقف بعد أن مرّ على الأسماء الخمسةِ لله ربّ العالمين، يُسلِّمه الاسم إلى الصّفة، والصّفة إلى الاسمِ، نراه يندفع مرّة أخرى في شغفِ الامتلاءِ يقولُ بملء صدره: (إيّاك نعبد).
إنّها كلمة لا يقولها على هذا النّحو من الشّدة واليقين إلاّ من امتلأ يقينا، وعلم ما ينتظره ربُّهُ منه بعد ما حصل على ذلك العلم الذي حملته له الآيات السّابقة. فليس له من مهمّة بعدُ إلاّ أن يعبد الله عزّ وجلّ عبادة تترجِم ما يراه بأمِّ عينِه، وما يعتقده بشغاف قلبه، وما يستيقنه بصميم عقله. إذ المهمّة الأولى المنوطة به شكرا لله على ما قد علم، هي أن يعبد الله وحدهعبادة خالصة من كلِّ شائبةٍ يمكن أن تشوبها من قريب أو بعيد. وهو الأمر الذي يعلم يقينا أنّه لن يحقّقه خالصا لله من غير عونٍ وتوفيقٍ يستمدُّه من الله عزّ وجلّ. لذلك تراه يسارع يقول:( وإيّاك نستعين).
إنّ حقيقة الاستعانة تتجلّى في كون العبادة التي يريد أن يقدمها العبد لربّه، عبادة لا يخترعها من قبل نفسه، فيصنعها هواه، وإنّما هي عبادة مسطورة مُبَيَّنة من قبل الله ربّ العالمين، ومن ثمّ فالاستقامة عليها اعتقادا وتأدية تكون دوما في حاجة إلى إعانة واستعانة. والعبدُ حينما يطلب ذلك يدرك جيّدا أنّه لن يستطيع أن يكون فيها على النّحو الذي يريده الله عزّ وجلّ، ويقدر عليها المخلَصُون من عباده، من أنبياءٍ رسلٍ، ومختارين من عباده. فيشعر أنّه في حاجة إلى ذلك العون وذلك المدد المستمر الذي يهذِّب النّفس، ويلطِّف القلب، ويعطي للعقل يقينا ثابتا مستقرا.
صحيح أنّ (إيّاك نعبد) إعلان فيه كثير من نشوةِ وفرحةِ الاكتشاف، غير أنّه ليس بكاف وحده ليحقق ذلك الوعد الذي قطعه المُنتشي الفرحُ على نفسه، فيستدرك سريعا طالبا العونَ من الله بنفس أسلوب العبارة التي حملت فرحته، ونفس يقينها البلاغي. وتجانسها البنائي. أي نحن أمام عبارتين متوازيتين في إيقاع متناغم واحد، يأوِّبُ الواحد على أخيه ويرجِّعُ. ليكشف لنا مقدار التّوازن الذي يسكن النّفس الآن وهي تقف هذا الموقف أمام ربّها.تطلب قدرا من التّعادلِ، والتّجانسِ، والهندسة في بناء النّفس قلبا، وعقلا، واعتقادا، وإرادة، وكأنها في حاجة إلى كلّ ذلك لكي تجعل من إرادتها عملا مستمرا دائما لا يفترُ أبدا.
إنّها تريده في حركاتها وسكناتها، تريده في كلّ حال من أحوالها عبادةً بين يدي ربّها. فليست تعبدُ الله عزّ وجلّ في أوقات فقط، بحركات وأقوال مخصوصة، وإنّما هي تعبد ربّها في كلّ الأوقات والأزمنة والهيئات. إذ كلّ وقتها، وكلّ أمكنتها، وكلّ أحوالها قولا، وعملا، عبادةٌ لله عزّ وجلّ. فهي لا تنفك قائمة بين يدي ربّها. في حلِّها وترحالها. إذ الزّمن كلّه بين يديها فعل عبادة وتعبُّد. هذا الوعي منها وفيها، هو الذي هندس الآية على هذا النّحو، وأعطاها هذه القوّة الموزعة بين فرحة الاكتشاف والاندفاع نحو العمل، والشّعور الموقن أنّها لن تستطيع بمفردها إتمام مُرادها في التّعبد على النحو الأكمل. ومن ثم كان هذ التّوازي في الآية ناطقا عن ذلك التّوازي والتّوازن في النّفس وهي تدرك هذه الحقيقة إدراكا واضحا بيّنا.
هذا ما نفسِّر به هندسة الآية الكريمة ونحن نُقبل عليها من زاوية (الحمد) و(العبادة) فيكون التّرتيب الذي أثبته الله عزّ وجلّ على النّحو الذي يقرأه اليوم عامة المسلمين في مصاحفهم، ترتيبا ربانيا عالما بحقيقة النّفس البشرية، معبِّرا عن مراحل تقبُّلها لما عُرض عليها من أسماء وصفات، وما أدركته من مراد الله في كلّ واحد منها. غير أنّنا نجد عند السّادة المفسرين تدبّرا آخر في نظام الآية بُغية استخراج حقيقة النّظم فيها. يقول الطبري رحمه الله:(فَقَدَّمَالْخَبَرَ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَأُخِّرَتْ مَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا بَعْدَهَا؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ بِالْمَعُونَةِ، فَمَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ كَانَتْ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ قَبْلَ الْمُعَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ بِهَا. قِيلَ: لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ إِلَيْهَا إِلَّا بِمَعُونَةٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَكَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَابِدًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْعِبَادَةِ مُعَانٌ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَانًا عَلَيْهَا إِلَّا وَهُوَ لَهَا فَاعِلٌ؛ كَانَ سَوَاءً تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ.)
غير أنّ هذا التّعليل، وإن كان (منطقيا) إلاّ أنّه لا يشفي الغليل في نتيجته، إذ لا يستوي حال الآية إذا قدمنا الاستعانة على العبادة، لأنّنا سنلغي تلك الفرحة التي يعلن العبدُ من خلالها إقباله على العبادة. فهو أولا، كما كان (الحمد) ابتداء إخراج ما في القلب والعقل من إقرار بالتّوحيد والرّبوبية، يجعل القارئ يبدأ قائلا: (الحمد لله) ها هو الآن يبدأ من جديد قائلا: (إيّاك نعبد) لأنّ هندسة الفاتحة تقتضي مَفْصَلَتَها إلى قسمين: قسم أول يختصُّ به الحمد، وقسم تختصُّ به العبادة. وعلى هذا السّمت الهندسي نجد "ابن أبي حاتم" في تفسيره يقول:( قال بعض السّلف: الفاتحة سرُّ القرآن وسرُّها هذه الكلمة: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين» فالأول تبرؤٌ من الشِّرك، والثاني تبرؤٌ من الحول، والقوّة، والتّفويض إلى الله عز وجل.)وهو عين التّقسيم الذي انتهينا إليه، إذ يكون التبرؤُ من الشّرك، والتّطهر منه، من خلال يقين العقل والقلب، مدخلا إلى التّبرؤ من الحول والقوّة، والقدرة على العبادة دون استعانة وتوفيق من الله عزّ وجلّ. وهنا يتحقّق ذلك السرّ الذي تحدث عنه "ابن أبي حاتم" حديثه الدّقيق العارف. وقد رأينا القشيريّ يقول كذلك: (والابتداء بذكر المعبود أتمُّ من الابتداء بذكر صفته التي هي عبادتُه واستعانتُه، وهذه الصّيغة أجزلُفي اللّفظ، وأعذبُفي السّمع.)
إنّ تلمُّس مثل هذه الرّقائق في الأسلوب والبلاغة، إنّما تتأتّى من ذلك التّذوق الذي يقابل به العبد فعل التّعبد، ويندرج فيه عملا يزكو به كلّ حين، وكأنّه في كلّ حال من أحواله التّعبدية في جولان بين نشوة، وفرحة، وسعادة، لا يريدها أن تخفُتَ، ولا أن تخبوَ جذوتها في قلبه، وهو يعلم عوارض الدّنيا وهواجسها من حوله، ولا يجد لها من صارف إلاّ الله عزّ وجلّ تكرُّما وعوْنا. من ثمّ حملت لنا الفاتحة هذه الهندسة على مستويين: مستوى لغوي بديع، ومستوى نفسي عجيب. فكان لها هذا التّوازي الجميل بين الدّاخل والخارج. وكانت لها هذه الطمأنينة التي أرادها لنا الله في كلّ صلاة. فهو يريد أن تستمر سعادتنا بها إحساسا عقليا، ونفسيا، وجماليا، حتى ندرك من خلالها أسرار ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا بلال:(أرحنا بها يا بلال) لتكون العبادة ذلك الملجأ الذي لا تستطيع عواصف الدّنيا أن تهبّ في أرجائه. لأنّ جدرانه عازلة لوساوسها، مانعة لشياطينها بمعونة الله عزّ جلّ.
للرّازي رحمه الله جولةٌ عقليةٌ بديعةٌ في سرّ ذلك التّوازي نقتطف منه هذه الفقرة، حتى يتبيّن للقارئ أن العقل المسلم لم يستسلم للفاتحة تلاوةً من غير أن يجري فيها مطلبَ الله عزّ وجلّ تدبراً، حتى يعلم لماذا اختارها الله لتكون فاتحة كتابه الكريم. فقد كتب يقول:(سُورَةَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، منها خمسة من صفات الرُّبُوبِيَّةِ، وَهِيَ: اللَّهُ، وَالرَّبُّ، وَالرَّحْمَنُ، وَالرَّحِيمُ، وَالْمَالِكُ، وَخَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ وَهِيَ: الْعُبُودِيَّةُ، وَالِاسْتِعَانَةُ، وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ، وَطَلَبُ الِاسْتِقَامَةِ، وَطَلَبُ النِّعْمَةِ كَمَا قَالَ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فَانْطَبَقَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ الْخَمْسَةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الْخَمْسَةِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لِأَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَنَّكَ أَنْتَ الرَّحْمَنُ، وَارْزُقْنَا الِاسْتِقَامَةَ لِأَنَّكَ أَنْتَ الرَّحِيمُ، وَأَفِضْ عَلَيْنَا سِجَالَ نِعَمِكَ وَكَرَمِكَ لِأَنَّكَ مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ.) .
