تُعَدُّ الترجمة الثقافية جسراً راسخاً يربط بين مختلف الشعوب، وتسهم في تسهيل التواصل والتفاهم المتبادل بينها. ومع تنوع الثقافات والمجتمعات، يواجه المترجم تحديات كثيرة تتجلى في الفروقات الثقافية والاجتماعية بينها وكيفية امتصاص الهوة، لترجمة الأفكار والمفاهيم الثقافية، إذ يتوجب على المترجم أن يكون على دراية تامة بالمحيط السوسيوثقافي لها وكذا المرجعيات التاريخية وحتى الجغرافية التي تؤثر بصورة مباشرة على طبيعة الخطاب وخصوصياته بالإضافة إلى ذلك، ينبغي عليه إتباع سلسلة من الخطوات والاستراتيجيات التي يُنصَح بها عند ترجمتها من وجهة نظر علم الترجمة، بهدف تحقيق ترجمة مؤدية للمعنى تكون مؤثرة ثقافياً لدى المتلقي.
تزخر الجزائر نظرا للتنوع الثقافي الذي تحظ به بموروث شعبي ثقافي منه ما هو مادي كالألبسة التقليدية ومنه ما هو معنوي كـ "البوقالة"، والتي تعتبر موروثا شعريا شفويا نسويا، باختصار، "ديلمي" تشير في كتابها "البوقالة لعبة طقس أم شعر" إلى أهمية الترجمة كوسيلة فنية للتواصل الثقافي بين الشعوب، وكوسيلة لتعريف الناس بثقافات وحضارات مختلفة.
تندرج ترجمة "البوقالة" في خانة الترجمة الثقافية والتي تتطلب مهارات خاصة وحس إبداعي من قبل المترجم، فضلاً عن فهم عميق للثقافة واللغة المصدر والهدف. وتزداد التحديات عند ترجمة "البوقالة" التي تحمل خصوصية ثقافية معينة، سواء كان ذلك بسبب استخدام اللهجة أو تضمنها لمفاهيم ثقافية محددة، وهذا يعني أنَّ البوقالة تمثل إحدى مظاهر الثقافة الشعبية الشفهية، التي تُصاغ بشكل موزون للدلالة على رغبات المجتمع وخواطره وهواجسه.
كما تعتبر "البوقالة" من أهم أشكال الأدب الشّفوي الذي تبنته المرأة الجزائرية، وهو خطاب لا يقتصر على تبليغ رسالة ما للمتلقي وإنَّما تحسين صورة المرأة في المجتمع عامة ومع الرجل خاصة على حد تعبير ديلمي(2009، ص.120) تركز الترجمة الثقافية بشكل خاص على تجاوز الفجوات الثقافية واللغوية بين اللغات، وعادة ما تكون هذه التحديات أكثر وضوحاً عندما يكون هناك اختلاف كبير بين الثقافات المعنية. عندما تكون الثقافات متشابهة، فإن المترجم قد يجد العديد من النقاط المشتركة التي تسهل عملية الترجمة، ولكن حتى في هذه الحالة يمكن أن تظهر بعض الاختلافات الدقيقة التي تتطلب تعاملًا حساسًا ودقيقًا من قبل المترجم، ويعرفها الكثيرون أمثال القحطاني بأنّها: "عملية مقاربة لغوية تعتمد على القاسم المشترك بين ثقافتين ". (كما هو مذكور لدى صديق،2013، ص.91) حيث يكون من الممكن إيجاد توافقات ثقافية تساعد في نقل القيمة الجمالية للنص. ومع ذلك، عندما تكون هناك اختلافات كبيرة بين الثقافات، يمكن أن تكون هذه التحديات أكثر صعوبة، وقد يتطلب من المترجم البحث والإبداع لتقديم ترجمة تحاكي الجمالية الأصلية للعمل الأدبي. بالتالي قد تواجه المترجم صعوبات متعدّدة عند القيام بعملية الترجمة الثقافية تكمن أساساً في صعوبات مرتبطة بالعقيدة، صعوبات مرتبطة بالبيئة وعلاقات المجتمع، صعوبات مرتبطة بالعادات والأعراف والتقاليد الأمر الذي يستوجب اللُّجوء إلى النظرية السوسيوثقافية التي تعين على الترجمة الثقافية (نيومارك، 2006، ص. 195)، لذلك يعتبر السياق بالغ الأهمية في الترجمة ويحثُّ على الدقة.
تحضرني بوقالة معروفة تقول:" لسْمر يا لَسْمر، يَالّي عيْرُوني بيكْ، أنْتَ حايك لَحْريرْ، واَنا اجْعيبَة فيكْ، أنْتَ مَحرْمة فُولاَرْ، وانا شَرْبة فيكْ، أنتَ خاتمْ اَذْهب، وانَا افْسيسْ فيكْ، نَظَّارْبوا بالذْراع وَلّي يَغلبْ يَدّيكْ" والتي ترجمت إلى اللغة الإسبانية.
أول ما يمكن ملاحظته في هذه البوقالة ورود كلمة "حايك" التي وردت في معجم الغني جذر الكلمة: حوك. (مصدر حاكَ).
1-وَجَدَ الحائِكُ صوفاً لِيَحيكَهُ: مَنْ يَنْسُجُ مادَّةَ القُطْنِ أَوِ الصُّوفِ، أَيْ كُلَّ ما يُنْسَجُ لِيُجْعَلَ مِنْهُ نَسيجاً أَوْ ثِياباً.
2-تُطْلَقُ كَلِمَةُ الحايِكِ عَلى لِباسِ الْمَرْأَةِ في الجزائر، وَهُوَ مُكَوَّنٌ مِنْ قِطْعَةِ ثَوْبٍ تَرْتَديهِ الْمَرْأَةُ، يَسْتُرُ رَأْسَها وَوَجْهَها وَكامِلَ جَسَدِها. (مصدر حَاكَ).
3-يَشْتَغِلُ فِي الحِيَاكَةِ: حِرْفَةُ الحَائِكِ، أيْ نَسْجُ الثِّيَابِ. والتي ترجمت إلى اللغة الاسبانية بـ Manto، وترجعُ بداية استخدام الحايك للعصر العثماني، فكان رمزاً للحشمة والوقار آنذاك. كما أنَّ "الحايك" لا زال راسخا في ذاكرة المجتمع الجزائري نظراً لمساهمته في الثورة الجزائرية. فقد كان يلْجأ إليه الرجال والنساء من جبهة التحرير الوطنية، وذلك للتخفّي من أجل نقل الأسلحة وتجنُّب مراقبة الجيش الفرنسي.
تندرج كلمة "حايك" وفق تقسيم "نيومارك" للكلمات الثقافية ضمن الثقافة المادية الجزائرية، وتتمثل في نوع من أنواع الألبسة التقليدية، فهو من بين الألبسة التقليدية غير المعروفة في المجتمع الإسباني، وبالتالي واجهت المترجمة أثناء الترجمة صعوبة ثقافية متعلقة بالعادات والتقاليد، كما تشير الكلمة الثقافية "حايك" إلى اللُّغة الخاصة بالمجتمع الجزائري وهو ما أسماه نيومارك بـ "التركيز الثقافي"، إذ أنَّ الاختلاف اللُّغوي هنا يسبّب مشاكل في الترجمة، ولهذا يتوجب برمجة النظرية السوسيوثقافية التي تحثُّ على فهم المعنى بالرجوع إلى المرجعية الثقافية. وبناءً على إلمام المترجمة باللغتين والثقافتين الجزائرية والإسبانية، استطاعت أن تتجاوز التحدي الذي واجهها في ترجمة مصطلح "حايك" من خلال استخدام إستراتيجية المكافئ الثقافي. فقد قامت بترجمة هذا المصطلح إلى "Manto"، وهو لباس تقليدي إسباني يشترك في الخصائص الشكلية مع الحايك الجزائري، ويشترك أيضًا في الدوافع الثقافية لاستخدامه في الماضي. بهذه الطريقة، تجاوزت المترجمة التحدي الترجمي الذي يشير إليه نيومارك في نظريته السوسيوثقافية، والذي يتعلق بصعوبة إيجاد مقابل ثقافي لمصطلح ثقافي، ونجحت في نقل جزء من المعنى المراد من مصطلح "حايك".
في الختام، يظهر الدور الحيوي للمترجم في تحقيق التواصل الثقافي بين اللغات المختلفة، حيث يتطلب عملية الترجمة الثقافية مهارات ومعرفة عميقة باللغات والثقافات المعنية. من خلال استخدام استراتيجيات مثل المكافئ الثقافي، يمكن للمترجم تجاوز التحديات التي قد تواجهه في نقل الجمالية والقيمة الثقافية للنص الأصلي. إن تجاوز الصعاب التي تواجه عملية الترجمة يبرز الأهمية الكبيرة لدور المترجم في تعزيز التفاهم والتواصل الثقافي بين الشعوب، وهو جهد مستمر وحثيث يسهم في إثراء الحوار الثقافي العالمي.