إن الحديث عن مكانة عبد الملك مرتاض في الوعي الثقافي العربي - بعامة والجزائر على وجه الخصوص - والإنتاج الأدبي والنقدي، طويل سلَّمه، عميق مرامه، دقيق سؤاله، غني في تجاربه، راسخ في أصالته، ماجد في هويته، متجذر في إنسانيته. وفوق ذلك سوف يبقى إنتاجه الغزير معبرًا عن مكانته العلمية، ماكثا في الوعي الفكري والنقدي، على مر العصور، مثل الأعمال الخالدة في ثباتها.
وإذا كنت قد بدأت بما يستوجبه علي ضميري في حق أستاذنا، المغفور له، بهذا الطرح؛ فلأنني من الجيل الثاني بعد استقلال الجزائر الذين رأوا في أستاذنا عبد الملك مرتاض تواضع العلماء في عطائهم الفكري المستنير؛ والباحث النيِّر،والمفكر الجاد،والعالم الخبير،والمجدد المتقِن؛ لذلك آليت على نفسي أن أقوم بواجب ما تمليه علي علاقاتي به، وفي كل مرة أحاول فيها تلبية الضمير تقودني ذاكرة كلماتي إلى مذكرة أخرى تنبئني بحفر جديد في بئر يفيض منه عبد الملك مرتاض بماء رَوِيٍّ، وبما جادت به خبراته وأفكاره النيرة، وفي كل حين يتخذ نهجًا جديدًا بذاكرة جديدة، ورؤيا حصيفة تُبلِج المألوف. وهكذا، يتجدد نشاطه في كل مرة بمظهر من مظاهر التحرر في أعماق تجلياته، وهو ما أجمعت في حقه مختلف التلقيات التي نعرفها عنه، وانتقيناها من مصادرها، وبالتحديد فيما يتعلق بالرؤية الفكرية وملحمية الحس التأملي في تجربته مع المتلقي، وقد انسجم وعي مرتاض الأدبي بوعي الجيل الواعد؛ ويكمن وراء هذا الانسجام حبه لطموحاته، وتمسكه بأصالته، وحلمه بالخلاص في بعديه المعرفي والمعنوي. وبذلك تحول مشروعه الأدبي إلى نبع وطني لا ينضب، وربما كانت واقعية مرتاض الأدبية في مرحلته التأسيسية نابعة من الحرص على غيرة حب الوطن، ولعل تأكيد مبدأ التحرر من القيود، أيا كان نوعها، أحد أهم عوامل تحمسه لوطنه ومساءلة اللحظة الفنية فيه.
الوجدان الأصيل عند عبد الملك مرتاض
يشكل الوجدان الأصيل عند عبد الملك مرتاض مرجعية فنية ومعرفية، يستمد منها المثقف والأديب معينه الفني، والوطني،ومواجهة النواقص الاجتماعية، ومجابهة المتناقضات الإيديولوجية، واستنهاض الهمم المحلية والعربية، والمسعى إلى طلب التجديد، والعمل على تنوير الفكر، والرغبة في إصلاح الخلل الاجتماعي، من خلال رواياته على وجه الخصوص. وبتنوع الموضوعات والأغراض يمتد مسعى عبد الملك مرتاض ليشمل طموحات المواطن الجزائري؛ الأمر الذي يعكس فخره بانتمائه لوطنه؛الأمر الذي جعل أرضيـته الأدبية فضاء خصبًا، وامتدادًا حقيقيًا للأدب الجزائري ـ على وجه الخصوص ـ شكلا ومضمونا
إن ارتباط عبد الملك مرتاض بهموم المواطنة هو في صميم الارتباط الوجداني، فكما شكل الواقع الجزائري ـ منذ الاستقلال حتى نهاية السبعينات من القرن العشرين ـ مادة للامتصاص الأدبي، كذلك تحولت التجربة الإبداعية لديه صوتا للمجتمع،وقد نلمس هذا الاتجاه بوضوح في إنتاجه الفني الذي يكاد يكون وقفًا على تلك الموضوعات في أسلوب يغلب عليه طابع التأسيس للأدب الجزائري الحديث، رغبة في تحفيز العزم القوي، وعلو همم الأديب الجزائري الواعد، تَباعًا.
لقد كان وعي عبد الملك مرتاض بكثافة تاريخ الجزائر، وإلمامه بالواقع، دافعا جوهريا لتفجير الوجدان المحلي والوجدان العربي في كتاباته، وإذا أضفنا إلى ذلك طريقة تصوره الأحداث والمواقف بلغته العذبة، فإن موضوعاته كانت تتحصن بالمضمون الفكري المطعم بالثقافة الأصيلة، وهو توجه قد يبدو للبعض أيديولوجيا، غير أنه فـي منظورنا توجه إنساني جعل من الهوية، والوجدان العربي، ومن القضية الوطنية [الوجدان المحلي] تمثلا أعلى لوجدان الإنسان العربي، وانتصاره على اليأس، والخيبة، والغربة النفسية.