بقلم : حبيب مونسي
﴿ثُمَّقَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢبَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُمِنۡهُٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ٧٤﴾
يعدّ التّمثيل من أساليب القرآن الكريم التي استعملها كثيرا في آياته وسوره، إذ التّمثيل يختلف عن المثل، ويتعداه في وظيفته التي تحيل الكلام على عبارة مسكوكة محفوظة، يحفظها النّاس، ويتداولونها في أحاديثهم وكتاباتهم. ذلك أنّ التمثيل يعتمد على عرض خبر أو قصّة، أو موقف يُبيِّن به المقصد العام من الآية. فيكون التّمثيل بمثابة (النّص) التّطبيقي بين يدي الآية حتى تَتَكَّشف مقاصدُها واضحة جليَّة للمتلقي. من هنا كانت وقفتي مع هذه الآية التي "أنصف" الله عز وجل فيها الحجارة، ورفع عنها صفة القساوة التي بمعنى عدم الاستجابة، وعدّد فيها من الصّفات التي يبتهج لها الناس، ويحمدون فيها صنيعها.
كانت وقفتي من ألطف الوقفات التي سألت فيها نفسي هذا السؤال: صحيح أنّ الآية وردت في جماعة من بني إسرائيل أنكروا جريمة اقترفوها، وكان ناتج ذلك الإنكار أن قست قلوبهم ، فكانت في قساوتها كقساوة الحجارة ظاهريا. بيد أنّ ذلك التّمثيل التّوضيحي فتح أمامي السّؤال عن طبيعة القلوب... القلوب التي تؤمن، وتصدِّق وتُذْعِن لشواهد الله عزّ وجل، كيف تكون؟ فكان الجواب من التّمثيل نفسه الذي ساقته الآية بين يديها لأنصاف الحجارة، تُبرِّئتها من القسوة التي يعهدها النّاس في شكلها. فإذا القلوب ثلاثة: قلب تتفجر منه الأنهار، وقلب يخرج منه الماء، وقلب يهبط من خشية الله.
القلب الذي تتفجر منه الأنهار: إنّه قلب خاص بأنبياء الله ورسله،فلا أحد تتسنى له تلك المرتبة السّامقة غير ذوي النّفوس المعصومة التي عُصمت من الشّر ومشتقاته من كره، وحقد، وأنانية، وجُبلت على الخير والدّعوة إلى الله عزّ وجل وتوحيده. قلب كثير العطاء، متدفّق الخير، له أثره الواضح في تربة أمته، لا ينقطع تدفُّقه في حياته ولا بعد مماته. إذ ليس هو نهر واحد، وإنّما هو أنهار متعّددة من الخير: من العلم، والعمل، والصلاح والإصلاح، والبرّ، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر. وأنهار من قلوب أخرى تتفرّع من منابعه، وتجري من سواقيه وجداوله، فتسير بمياهه في الأمكنة والأزمنة. وكأنّه قلب يسير في المجتمع كما يسير الغيث في عرض السّماء فيمطر مدرارا هنا وهناك، يخرج زرعا، ويُمْرع أرضا، ويدرّ ضرعا، ويُذهب قنوط النّاس، ويشيع الفرحة فيهم بدنياهم وآخرتهم.
القلب الذي يخرج منه الماء: قلب هو منبع الحياة ومجدِّدها، يأوي إليه النّاس فيجدوا عنده الريّ، فيشربون ماء زلالا طيِّبا فُراتا. قلب أخاله في صدر الطبيب المسعف، والمعلم المجتهد، والمحسن البار، والمربّي الرحيم. أخاله في صدر كل مؤمن جعل من نفسه منبعا للخير، والبر، وصلة الرّحم... وما شئنا من أسباب تجديد الحياة في النّاس واستمرارها.
القلب الذي يهبط من خشية الله: قلب العابد المتبتِّل في محرابه، قلب الزّاهد في الدّنيا، المُقبل على الآخرة. قلب العارفين الذي آثروا الابتعاد عن رهج الدّنيا وزيفها، ليقبلوا على الله بقلوب تكاد تذوب من الخشية والخشوع.
وإذا تأملنا ترتيب القلوب على هذا النحو، رأينا كيف فضل الله عزّ وجل القلب الأول: القلب الأنهار، وجعله في المقدمة، لأنّه قلب العطاء والتّدفق. ثم يتلوه قلب الماء، لأنه قلب الحياة، ثم يأتي قلب الخشية لأنّه قلب خاص بصاحبه وحده. أما الأول والثاني فيعملان للصّالح العام حياة واستمرارا.