تشهد منطقة الساحل الأفريقي حالة انكشاف أمني منذ عدّة عقود ومردّ ذلك إلى التشوهات التي أصابت مختلف البنى سواء ما تعلق ببناء الدولة ودرجة تغلغلها في البناء الاجتماعي أو قدراتها على الاستخدام المشروع للقوة، الممزوج بالتنافس المتصاعد بين القوى الكبرى والصاعدة المدفوعة بالطابع المصلحي والعامل التاريخي وتعزيز منطقة الساحل الأفريقي التمدد في إفريقيا جنوب الصحراء.
وفي ذات السياق تعتبر منطقة الساحل الأفريقي العمق الاستراتيجي للجزائر، وامتدادها لها في أبعادها الجيو - إستراتيجية والسياسية والاجتماعية ونافذة للجزائر نحو الجنوب ، ومن هنا طرحنا إشكالية فيما تتجسد مقاربة الجزائر الأمنية والسياسية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذه الرقعة الشاسعة ، وحماية أمنها وتوسيع اقتصادها بالموازاة مع كل ما تحويه دول المنطقة من مدركات مختلفة ، وعليه يجيبنا الدكتور-محمد بالجيلالي أستاذ محاضر، تخصص علاقات دولية، كلية الحقوق والعلوم السياسية-جامعة ابن خلدون-تيارت- ، قائلا : " تشكّل منطقة الساحل مصدرا لتصدير التهديدات التماثلية واللاتماثلية للداخل الجزائري، لاسيما في تنامي الأنشطة الإرهابية بداية من 2011م نتيجة لحالة الفشل الدولاتي في عدّة دول في المطقة.
وتزخر منطقة الساحل الأفريقي بثروات هامة قد يحوّلها إلى قطب اقتصادي هام فقد استحوذت على أهمية محورية في حركة التنقل بين الشمال والجنوب وما بين غرب وشرق القارة الإفريقية، ناهيك عن امتلاكها لعوامل جذب داخلية سواء بفعل مواردها الطبيعية، أو نتيجة التفاعلات العرقية والسياسية والحضارية المختلفة التي زادت من تدخل الفواعل الخارجية في المنطقة.
وتعد منطقة الساحل الأفريقي خزان بالثروات الإستراتيجية، فهي تضم حوالي 10% من احتياطي النفط العالمي المثبت، وتحوز منطقة الساحل على 60% ، وتحديدا في ثلاثة دول رئيسية منتجة هي نيجيريا،الجزائر وليبيا في حين تقدّر احتياطات الغاز المثبتة بـ 8% من نسبة الاحتياطات العالمية ويتوزع أكثر من 50% منه في كل من الجزائر ونيجيريا.
أما ما تعلّق بالثروات المعدنية مثل الماس والنحاس والذهب والزنك والرخام والحديد بالإضافة إلى اليورانيوم حيث يقدر احتياطي النيجر لوحدها بـ 280 ألف طن الذي تستغله الشركات الفرنسية، حيث تحتل المرتبة الرابعة عالميا بنسبة 8.7% من الإنتاج العالمي ما نسبته 12% من احتياجات الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى شمال تشاد بإنتاج سنوي قدّر بـ 1000 طن من اليورانيوم.
وبشكل عام تعتبر أفريقيا في هذا السياق منجما ضخما ينتج 80% من البلاتين في العالم وأكثر من 40% من الألماس و20% من الذهب، وتعد صناعة التعدين من الصناعات الأساسية في مالي عبر استخراج الذهب والفوسفات والنحاس والألماس، أما النيجر فيوجد اليورانيوم والفحم والحديد والفوسفات والذهب والقصدير، حيث يعتبر اليورانيوم الخام المرتبة الأولى في قائمة الصادرات تستغله شركة فرنسية، كما تنتج موريتانيا الحديد بإنتاج يقدّر بـ 100 مليون طن والنحاس الذي يقدّر احتياطه بـ27،3 مليون طن.
كما تزخر منطقة الساحل الأفريقي بمجموعة من الأنهار أهمها نهر النيجر المصنف رابع أنهار العالم من حيث الطول وكمية المياه المتدفقة فيه، ونهر السينغال المصنف السادس عالميا بالإضافة إلى عدّة أنهار أخرى، ففي ساحل العاج تعبّر 4 أنهار رئيسية من شطرها الشمالي إلى شطرها الجنوبي أهمها نهر كافا، ونهر بندامي ونهر سندارا، كما يشكّل حوض تاوديني خزان للثروات المعدنية من بترول ويورانيوم، كما أصبح الساحل منطقة عبور إستراتيجية لمشروع خط أنبوب الغاز العابر للصحراء من نيجيريا نحو أوروبا مرورا بالأراضي النيجرية والجزائرية لتحقيق الأمن الطاقوي، هذه القدرات زادت من معامل منطقة الساحل الأفريقي في مدركات صنّاع القرار للفواعل الكبرى على غرار الولايات المتحدة الأمريكية الساعي لوضع قدم لها في المنطقة بذريعة مكافحة الإرهاب وضمان توريد الطاقة من خليج غينيا والحد من النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، والاتحاد الأوروبي خصوصا الفاعل الفرنسي المدفوع بالعوامل التاريخية والاقتصادية والثقافية، الفواعل الصاعدة ممثلة في الصين الساعية لضمان أمنها الطاقوي، وروسيا للالتفاف على العقوبات الغربية والسيطرة على مناطق الطاقة والثروات، بالإضافة للفاعل التركي الساعي للتمدد في القارة الأفريقية اقتصاديا وثقافيا وكذا دول مجلس التعاون الخليجي لاسيما المملكة السعودية والإمارات الساعية لتنفيذ أجنداتها في منطقة ساحل وشمال أفريقيا وصولا لشرق أفريقيا.
أما بخصوص تأثير حالة الانكشاف الأمني على الأمن القومي الجزائري الذي يشمل تهديدات سياسية وأمنية أبرزها سعي حركة "الأزواد" للاستقلال والفشل الدولاتي الذي خلّف أزمات (الهوية، الولاء، التوزيع، التغلغل والفقر وغيرها) وتنامي الأنشطة الإرهابية نتيجة الانتشار الكبير للسلاح بعد انهيار نظام القذافي وانتعاش تجارة السلاح غير الشرعية في المنطقة، وتصاعد الهجرة غير الشرعية والتهديدات البيئية والصراعات الداخلية التي باتت ترهق صنّاع القرار في الجزائر، ناهيك عن التهديدات الاجتماعية والاقتصادية.
أمام هذه التهديدات تبنت الجزائر مقاربة شاملة متعددة المستويات ومتعددة المتغيرات لتلافي مصادر تهديد الأمن القومي الجزائري، قائمة على مبدأ الخصوصية وعدم استخدام القوة لحل المشاكل ورفض التدخلات العسكرية مهما كان مصدرها والعمل وفق الهياكل الدولية لاسيما الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، بالإضافة على تجريم تقديم الفدية للجماعات الإرهابية وهو ما عبرت عليه الجزائر بمعارضة العمليات العسكرية الفرنسية ومجموعة "الإيكواس"، كما تتبنى سياسة الجهود الذاتية أين عملت على تأسيس ما يعرف بدول الميدان التي تضم الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر ومقرها تمنراست، بالإضافة إلى تأسيس لجنة عمليات الأركان المشتركة لدول الساحل للتنسيق الاستخباراتي، وكذا استضافة المركز الإفريقي للدراسات والبحث في الإرهاب.
أما ما يتعلّق بالشق الاقتصادي فشمل تعزيز التجارة البينية ومسح الديون وضرورة تبني مشاريع تنموية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي ضمن ثنائية الأمن-التنمية كأحد متطلبات الأمن الشامل، ومع الاتحاد الأفريقي عبر صناديق التنمية، زيادة على تعزيز الدبلوماسية الدينية عبر المرجعيات الدينية في المنطقة ناهيك عن قضية "التوارق" الذي من شأنه تعزيز العلاقات غير الرسمية والساعية لتلافي مختلف التهديدات.
وبالتالي تظل منطقة الساحل الأفريقي تحظى بأهمية ضمن لعبة الشطرنج العالمية نتيجة جملة السمات و الخصائص التي تحوزها لاسيما ما يتعلّق بالموقع الجيو- استراتيجي الرابط بين شمال أفريقيا و جنوب الصحراء وشرق أفريقيا والخليج العربي، وكذا خليج غينيا الغني بالموارد، ناهيك عن الطاقة ، الثروات التي تعد محركات الفواعل الكبرى والصاعدة كما أنها مصّدر للتهديدات التماثلية واللاتماثية التي فرضت على صنّاع القرار الجزائري بلورة سلسلة من الآليات صونا للأمن القومي والحد من تمدد عدّة فواعل لاسيما من دول الجوار البعيد".