أسالت مسألة "المناسباتية" حبر الكثير من أقلام النقاد والمهتمين بعالم الإنتاج الدرامي، لما لهذه من الظاهرة من تأثيرات سلبية على واقع الإبداع ومستقبل الفنان الذي يبدو أنه يسير في درب محفوف بالعثرات والخيبات، رغم المحاولات الجادة للجهات المعنية التي تسعى إلى تحسين وضعه الاجتماعي وإخراجه من حالة اليأس التي أحكمت قبضتها على أحلامه وكفاءاته وموهبته، وجعلته ينفر من عالمه الإبداعي الذي اختاره عن قناعة وحب، ليجد هذا الأخير نفسه معزولا في غرفة "البطالة" يجلس في زاوية مظلمة، يتفقّد في كل دقيقة وثانية هاتفه النقال، علّه يتلقى اتصالا أو رسالة ليحصل على دور في مسلسل رمضاني، حتى لو كان ثانويا ولو بالمجان أو مقابل أجر زهيد !!، المهم أن تطأ قدماه موقع التصوير، يقف أمام الكاميرا إلى جانب زملائه، ويؤدي دوره بكل ثقة، ليقول في داخله " أنا فنان،أنا هنا ..أنا موجود !!".
"المناسباتية" ظاهرة تغلغلت بعمق في مشهدنا الدرامي، حيث صار المشاهد الجزائري لا يشاهد مسلسلات إلا خلال شهر رمضان، لدرجة أنه وقّع عقدا سنويا مع الشاشة الرمضانية، ينتهي عُمره بانتهاء الشهر الفضيل، خاصة أن الأعمال الدرامية باتت تتصدر اهتماماته في الموسم الرمضاني بعد أن فرضت نفسها بقوة خلال السنوات الأخيرة، بفضل ظهور أعمال جيدة وممثلين رفيعي المستوى خاصة من الجيل الجديد الذين أبهروا الجمهور هذه السنة، بحضورهم القوي وأدائهم النوعي وتمكُنهم من أدوات التمثيل وتجسيدهم الاحترافي للشخصيات المختلفة، لدرجة أن البعض تمنى أن لا ينتهي الموسم الرمضاني حتى يستمتعوا أكثر بهذه المسلسلات ويتابعوا فنانيهم المفضلين، ولأنهم يدركون تمام الإدراك أنه وفورا بعد انتهاء شهر رمضان، سيُسدل ستار الدراما وتوصد الأبواب، تغيب اللمة العائلية وتتشتت الأفكار، ويُفصل الخط الرابط بين الجمهور وشاشات التلفزيون، وتصبح تلك الهُوة بينهما عميقة إلى أبعد الحدود.
ورغم أن الدراما صناعة ضخمة ومهمة جدا في العالم ككل، إلا أنها تبقى مهمشة أمام الصناعة السينمائية والموسيقية لعدة اعتبارات، فهي صناعة تحتاج إلى ميزانية كبرى وتستدعي أيضا عملا جادا وكبيرا يتعلق بالترويج والتوزيع، وربما هو ما ساهم في تضاعف نسبة استفحال ظاهرة "المناسباتية "بالنسبة لهذا النوع من الانتاجات الفنية، فإنتاج مسلسل ليس بالأمر الهين، لذلك يرفض المنتجون خوض هذه المغامرة التي يمكن أن تكلفهم خسائر مادية وخيمة في حال فشل العمل الدرامي، وهو ما يلخص التوجه الذي يسير على دربه الكثير منهم، وهو الربح المالي طبعا، أما الفنان فهو خارج الحسابات، ولا يملك سوى الانتظار ومحاولة تصيد الفرص للظهور واستثمار طاقاته الفنية وممارسة عمله كغيره من الموظفين، خصوصا إذا كان لا يملك دخلا آخر ماعدا الفن، ..يحدث كل هذا وسط غياب تام لحلول واقعية يمكن أن تضمن وجود الدراما على مدار السنة، وليس فقط في شهر الصيام، وأن تساعد على انتعاش الإنتاج الدرامي والحركة الفنية ككل، مع خلق فرص جديدة للفنانين وفتح الأفاق أمامهم للعمل وإيصال شغفهم الإبداعي إلى الجمهور المتعطش هو الآخر لمسلسلات تعكس واقعنا المعيش، وتترجم عاداتنا وتقاليدنا ونمط معيشتنا وكل ما يعكس هويتنا كجزائريين، خصوصا بالنسبة للمُغتربين الذين يحِنون لهذه الأجواء،والأهم التسويق لموروثنا الثقافي العريق وأصالتنا ومحاولة عرض أعمالنا في قنوات عربية وأجنبية، حتى يتابع الآخرون أعمالنا كما نتابع نحن مسلسلاتهم التي لا تقل أهمية عن مسلسلاتنا، لو أنه فقط أخذت الدراما المحلية حقها من الاهتمام والتسويق والاستمرارية والحفاظ على البقاء طيلة العام وليس فقط خلال موسم واحد. ويبقى باب التساؤلات والاستفسارات مفتوحا أمام صناع الدراما الجزائرية من منتجين ومخرجين وهيئات مختصة وكل من يهتم بهذا النوع من الصناعات الإبداعية، لأنهم وحدهم من يملكون الإجابة على كل ما تم طرحه في ملفنا الثقافي لهذا العدد على لسان كوكبة من نجوم الدراما الجزائرية، سواء من الجيل القديم أو الجديد.