الرواية فنّ أدبي يتيح للكاتب تقديم رؤاه و وجهة نظره في قضايا المجتمع و الإنسان وهو يبني عوالمه وينسج أحداثا تحركها شخصيات من خياله، قد يجد فيها القارئ أسئلته العالقة وإجاباته المحتملة لواقع صار متعبا يضيق به الإنسان في عصر التحولات على مستويات عديدة أدّت إلى انقلاب سلّم القيم و تزعزع بعض القناعات، فيصدم المواطن الشريف بجملة التناقضات التي تتفه ما بذل من جهد وإخلاص لدرجة قد يصاب بالإحباط.
هذا ما اشتغل عليه الدكتور وليد خالدي الذي عرفناه ناقدا يسبر أغوار النصوص الأدبية، صدرت له 6 عناوين في النقد، وعنوانين في الشعر، هاهو يدخل عالم الرواية، وقد ملك ناصية اللغة المدجّجة بما خبره من أساليب وفنيات في كتابة الرواية اختار لها كعنوان: ولادة قيصرية.
صدرت رواية ولادة قيصرية للدكتور وليد خالدي عن دار متون المثقف للنشر و التوزيع بالقاهرة عام 2023م تقع في 210 صفحة .
بطل الرواية أراده وليد خالدي في مجال التعليم واختار له اسم نعيم : "الأستاذ نعيم" ، رغم أنه لم ينعم بالخير ولا بالسعادة بل عاش التمزق النفسي تحت ضغط المشاكل الاجتماعية حتى أنّه مرض ولزم الفراش، و صار يعاني الأرق و الهواجس نتيجة خيبة الأمل والشعور بالإحباط في مجتمع لا يشجع رجل التربية والتعليم ولا يدفع الشباب لتفجير طاقاته ومواهبه،. >>حالة مرَضية أقعدت الأستاذ نعيم الفراشَ مصحوبة بالأرق، متواريا عن الأنظار، بعد نشاط دؤوب مليء بالإنجازات والتتويجات.. ويتزايد شعوره بالقلق والإحباط كلما خيم الظلام الدامس في الأرجاء، مستلقيا على ظهره، فتتحول الغرفة إلى جو مكفهر يستحضر تفاصيل أحلامه المشؤومة، فتثير أعصابه بشدة، تعلوها غصة متأججة عبر مصب أحشائه الحارة<<.
يستحضر الروائي أبو زيد الهلالي في هلوسات الأستاذ نعيم ويحيلنا إلى التاريخ والأسطورة، إلى الواقع وإلى المتخيّل ليصوّر لنا المنعرج الهامّ الذي يبدو خطيرا مفتوحا على عديد الاحتمالات أمام تهميش الشباب، وقتل روح الإبداع والأمل في المواطن، نتيجة ممارسات غير حضارية في الإدارة، وفي اليومي المرتبط بهذا المواطن الكادح، لخّص كلّ هذا في جملة وردت في حوار دار بين الأستاذ نعيم وبين الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير الذي استحضره الكاتب كما استحضر شخصيات سياسية وأدبية وأخرى في مجالات مختلفة:
وهل يفلح قوم يا فولتير جعلوا البطن وما حوى مقدَّما على الرأس وما وعى؟.
يأخذنا الروائي في سرد تتشابك فيه الأحداث وتتوهج فيه اللغة بين السهل الممتنع وبين الشعر الذي حضر في أبيات تارة بلسان فصيح وتارة بدارجة مهذّبة، كمثال على ذلك كلمات أغنية الراحل كمال مسعودي التي نجدها في الصفحة 144 يطرح فيها أسئلة موجعة: مالي و مال شمسي غطوها الغيوم ..مالي ومال سمايا..ما قعدت فيه نجوم
هذا المقطع الذي يلخص هموم الأستاذ نعيم وجيله من الشباب الذين خذلهم الواقع، يحيلنا على عبارة استهل بها وليد خالدي روايته وهي مقولة لويليام شكسبير : وفي النهاية يرحلون جميعا.. و تبقى لك نفسك التي قتلتها من أجلهم. استنطق وليد خالدي الأشياء في هذه الرواية من خلال حالة الهذيان التي عاشها الأستاذ نعيم المحبط والمحاصر بواقع مرير، حتى لباسه نطق واحتج على تركه وحيدا معزولا في الخزانةK رغم أنّه يمثل الأصل والتراث وراح يلهث وراء اللباس الغربي الغريب عن عنا.
ما سرده وليد خالدي على لسان بطل روايته الأستاذ نعيم كان تارة في الواقع و تارة أخرى جزء من أحلامه وكوابيسه التي لا تختلف كثيرا عن الواقع الذي يحاول الهروب منه إلى الكتابة وبالفنّ.ونحن نلاحق أحداث الرواية ونعيش معاناة الأستاذ نعيم حتى نكاد نفقد الأمل، وتترسخ سوداوية الواقع لدينا؛ يفاجئنا الكاتب وليد خالدي بنهاية فيها الكثير من الأمل والتفاؤل بقوله في الصفحة 209:
"استفاق من غفوته تعلوه ابتسامة مشرقة .. إلى قوله: انتابه إحساس شديد دفعه إلى أن يزيل عن كاهله كل الأفكار العالقة.. ". وقد أدرك بطل الرواية أنّه عليه ألا يستسلم، وأن لا يبقى حبيس قوقعته وهواجسه، بل عليه مواصلة النضال لتغيير الواقع نحو الأفضل لتأتي النهاية متطابقة مع العبارة التي اختارها لتقديم روايته وهي لشمس التبريزي: واسأل نفسك مع شروق الشمس متى ستشرق أنت ؟.
وبهذا تكون شمس الروائي قد أشرقت بعد أعمال نقدية لتشكل مخاض تجربة جديدة بالنسبة له بدت فيها محاولته للخروج عن السائد في الاشتغال على الفكرة والبناء الفنّي للرواية، حتى أنّ القارئ عليه أن يعيد قراءتها أكثر من مرّة حتى يقبض على الفكرة، وتتجلى له رؤى الكاتب بين سطورها، نستحضر من خلالها مقولة العقاد: لا أريد أن يكون أدبي مروحة للكسالى النائمين.