يشكل الأدب – بمختلف أجناسه و أشكال تعبيره- مخيال المجتمعات، يعبر عن أحلامها و آمالها وطموحاتها و يرصد أحزانها و آلامها ومعاناتها، في ظروف السلم و الأمن و في ظروف المحن والاضطرابات و الحروب. ولعل ما عاشه الشعب الجزائري من قهر وتنكيل وما تعرض له من بطش و طغيان مارسه المستعمر الفرنسي عليه على مرّ الفترات الممتدة من سنة 0183 إلى سنة 1962 وعبرّ عنه الأدباء الجزائريون و بلغة المستعمر ذاته، كان له الوقع الكبير في نفوس القراء و في مختلف الأوطان الناطقة باللغة الفرنسية. و نذكر من أولئك الأدباء محمد ديب و كاتب ياسين و مولود فرعون و مولود معمري، وآسيا جبار و غيرهم، هؤلاء الذين شكلوا بكتاباتهم قطيعة فنية وأيديولوجية مع الطروحات الاستعمارية التي تعلي من شأن المهمة الحضارية التي كان ينادي بها ويدعو إليها، و هي دعوة لتبرير الاحتلال الجائر لأرض الجزائر وتسويغ قهر سكانها الأصليين والتنكيل بهم. و لم يكتف الاحتلال الفرنسي بالاستيلاء على الأراضي الخصبة و وضعها تحت تصرف المعمرين (الكولون)، بل انتقل إلى مسألة أكثر حساسية أـي تلك المتمثلة في الهوية، ليستبدلها بهوية جديدة تتلاءم مع مخططاته المذلة للسكان الأصليين، من خلال كتابة تاريخ ملفق و فبركة سردية مظللة، بوضع الأسس الثقافية العربية والإسلامية التي تميز الجزائريين بين قوسين، مع ربط حاضر السكان الأصليين بالماضي الروماني المسيحي ليكون ذلك – في نظر المفكرين و الأدباء الاستعماريين- امتدادا للتواجد الفرنسي على أرض الجزائر. و في هذا السياق الملتبس، عمد الاستعمار الفرنسي إلى محاربة اللغة العربية، و أغلق المدارس و وضع العراقيل الكثيرة أمام مدرسي هذه اللغة بغية منعهم من أداء مهامهم النبيلة، مع غلق المساجد و الزوايا. و كان من نتائج هذه العملية انتشار الأمية والجهل الذي أصبح عاما و بهدف إجتثاث المعالم الثقافية و الهوياتية للجزائريين.
-1- الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية :
لعبت المدرسة "دورا لا يستهان به نشر اللغة الفرنسية بين مختلف فئات المجتمع الجزائري، ولعل إدخال اللغة الفرنسية في الإدارة قد جعل من المشهد الثقافي والاجتماعي للبلاد يتغير بصفة جذرية"، وهكذا أصبحت اللغة الفرنسية اللغة الرسمية للمُستعمَرة، أي "فرنسة الجزائر"،التي تمت بشكل تدريجي من خلال المدرسة وعبر مراحل تاريخية محددة (1833-1870) و (1883-1898) و(1946-1949) و وفق برامج تعليمية أخذت في البداية بعين الاعتبار لغة الأهالي، أي اللغة العربية لتتخلى عنها في المرحلتين التاليتين، وستكون المدرسة التي دخل إليها الجزائريون لتعلم اللغة الفرنسية جسرا مناسبا لهم لكي يتعلموا القراءة، ومن ثمة قراءة الأدب العالمي و الكتابة، ولو بشكل بسيط، و الشروع في التعبير عن معاناة المجتمع وبخاصة تلك التي تواجهها الفئات الاجتماعية الفقيرة منها، على وجه الخصوص.
لقد سبق لبعض الجزائريين ممن كتبوا باللغة الفرنسية أن تناولوا هذه الموضوعات ، نذكر منهم ولد الشيخ محمد، والحاج حمد وشكري خوجة...وغيرهم، لكن في ظل رؤية كولونيالية، وعلى الرغم من عددها القليل، فقد استطاعت هذه النصوص أن تعبر عن السياق الكولونيالي الذي تميز بالهيمنة التامة على جميع مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولم يبق للسكان الأصليين سوى "الاستسلام والخضوع" ولو مؤقتا، إذ أن كل الثورات الشعبية والانتفاضات المقاومة لم تصمد أمام جبروت القوة المحتلة، وكان من الطبيعي أن تحاول الإدارة الفرنسية أن تسيطر على العقول والذهنيات وعلى المخيال بنشر لغتها الفرنسية وثقافتها، وهكذا بدأت عملية الإدماج الثقافي تأخذ مجراها من خلال التعليم المدرسي. وقد جاءت هذه النصوص الروائية لتعبر عن أدب مُهَيمَن عليه وخاضع، ما يمكن تسميته بـ "الأدب الصغير"، وكان تعلم اللغة الفرنسية آنذاك يشكل أحد السبل لإسماع صوت المُستَعمَر، إذ كان يتشكل المُتَلقِي في تلك الفترة، و في أغلب فئاته من الوافدين الجدد على الأرض الجزائرية. و كشفت هذه الممارسات عن تصورات كولونيالية تَجَلت في الإعلاء من شأن الاحتلال والاعتراف بمزايا "المهمة الحضارية" للاستعمار الفرنسي، إلا أن هذا الأدب كان يتأرجح بين انخراطه في النظام الاستعماري على المستوى الظاهر، ولكنه ظل يدافع عن استقلال الذات والهوية على المستوى الباطني، وهو الأمر الذي مما يجعلنا نقول و بشكل بديهي،أن الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية هو نتاج للفترة الاستعمارية، وقد بقي الأمر كذلك مع مختلف المراحل التي أعقبت العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
إذ شهدت هذه الفترة ميلاد الحركة الوطنية بأحزابها المختلفة التي دعت إلى استقلال الذات والوطن معا عن النظام الكولونيالي، خاصة مع "انتفاضة 8 ماي 1945 و بعد الحرب العالمية الثانية والفقر في القرى والأرياف ومع المطالب التي تقدمت بها الأحزاب الوطنية بشكل واضح و دقيق والاعتراف في مناطق أخرى بالجنسيات والاستقلاليات الجديدة هي التي ستسمح بإيقاظ الوعي لدى عدد كبير من الكتاب والمثقفين والمناضلين الشباب"، هو الوضع الذي قابله الاستعمار الفرنسي بقمع شديد، ذهب ضحيته الآلاف من الجزائريين، وبعد هذه المجازر أصبح العمل السياسي المتعارف عليه في أوساط النخبة الجزائرية من سياسيين و مثقفين غير مجدٍ، فكان لا بد من القطيعة مع النظام الاستعماري فكرا وسياسة، و بدأ التفكير من أشكال أخرى للنضال وأشكال أخرى للتعبير عن هذه القطيعة، فكانت نشأة جيل جديد من الأدباء يحمل رؤية أدبية غير معهودة و كتاباته تعج بمضامين مختلفة عن السابقين. في هذه المرحلة بالذات، أي في الخمسينيات ظهرت مجموعة من النصوص باللغة الفرنسية لكل من مولود فرعون، محمد ديب و كاتب ياسين ومولود معمري، وقد تمت تسمية هذه المجموعة ب "جيل الخمسينيات"، و قد سعى هؤلاء للتعبير عن معاناة الشعب الجزائري و "القيام بفضح نظام استغلال ظالم والحديث عن المسكوت عنه، وإعادة بناء ما تم هدمه وتصحيح ما تم إفساده أو تشويهه"ـ وترمي هذه الكتابات إلى مواجهة الاستعمار بمختلف أشكاله وربط الحاضر بالماضي وبالحضارة وجذورها الثقافية، و بالتالي التأكيد على الهوية الوطنية ومناهضة الاندماج من خلال توظيف واستعمال لغة الآخر الاستعماري.
-2- ترجمة الأدب الجزائري في المشرق العربي:
لقد كان من البديهي أن يحظى هذا الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية بالاهتمام الكبير من قبل المثقفين المشارقة من خلال الترجمة والنقد والترويج عن طريق النشر واللقاءات الثقافية، ويمكننا أن نقف عند بعض هؤلاء الذين بذلوا جهدا كبيرا للتعريف بهذا الأدب، ونذكر في البداية، أهم الأسماء، أي المترجمة ملكة أبيض العيسى والمترجم سامي الدروبي.
المترجمة ملكة أبيض العيسى:
لعل من أهم الأسماء التي تناولت هذا الأدب بالترجمة، نذكر المترجمة ملكة أبيض العيسى، (1928-2019) زوجة الشاعر السوري سليمان العيسى (1921-2013). حيث قامت المترجمة والكاتبة السورية الراحلة عبر أشغالها وأبحاثها بنقل الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، بفضل ما تملكه من ثقافة لغوية وثقافة فرنسية، ويمكن القول أن لها فضل كبير في نقل هذا الأدب إلى اللغة العربية، وكما يقول الزاوي أمين أنها قدمت في هذا الأدب "ترجمات هامة عرفت القارئ العربي به، لكنها ظلت إلى رحيلها منذ أيام مهمشة رغم إسهاماتها البارزة"،
والمعروف عن المترجمة أنها تملك عدة لغات وتحسن الحديث و الكتابة بها، منها اللغة الفرنسية التي لها علاقة خاصة بها، وهي اللغة التي "قرأت فيها أجمل النصوص الأدبية الجزائرية، وترجمت بعضها إلى العربية، وكانت تحفظ عن ظهر قلب بعض أبيات الشاعر الجزائري المتميز مالك حداد بالفرنسية"، وفي هذا السياق قامت ملكة أبيض العيسى بترجمة مجموعة من النصوص، منها "مسرحيتين لكاتب ياسين هما "الجثة المطوقة" و"الأجداد يزدادون ضراوة" 1961، وأيضا "الشقاء في خطر" ديوان شعر لمالك حداد 1961، ولكن العمل الأكثر تميزا في علاقتها بالأدب الجزائري هو ترجمتها لرواية" نجمة" لكاتب ياسين التي صدرت العام1963"، وقد جعلت ترجمة هذه الرواية الكثير من القراء العرب يلتفتون إلى المضمون الذي يعالج قضايا المجتمع الجزائري الذي كان يعيش تحت ظل الاستعمار و القهر ويعاني من البطش والعنصرية والاستغلال، وقد كان لهذه الرواية الأثر البالغ في كتابات الكثير من الروائيين العرب، منهم كل من جبرا إبراهيم جبرا وإسماعيل فهد إسماعيل وغسان كنفاني وإدوارد الخراط.
ولعل اهتمام النخبة السورية بصفة عامة والمثقفين بصفة خاصة بكل ما يتعلق بالجزائر، مثّل بيئة خصبة لتبني هذا الأدب وترجمته و الترويج له، وهذا دليل على أن سوريا بكافة مكوناتها المختلفة كانت تساند بشكل قوي القضية الجزائرية خلال مرحلة المقاومة ومرحلة الثورة، وقد أولت عناية خاصة للثقافة الجزائرية في فترة الستينيات من القرن الماضي، أي بعد حصول البلاد على استقلالها والتمكن من استرجاع سيادتها حيث كانت دمشق العاصمة العربية الوحيدة التي عملت بشكل جاد على تقديم الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية إلى القارئ السوري والعربي والناطق بالعربية، و ضمن هذه الجهود قامت وزارة الثقافة السورية بتأسيس سلسلة أدبية تحمل اسم "سلسلة الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية"، ونشرت منها أزيد من 20 عنوانا مترجما من الفرنسية إلى العربية، من روايات و شعر و نصوص مسرحية.ر ويتضح أيضا من خلال هذه الجهود أن ما قدمته النخبة المثقفة السورية للأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية يستحق الثناء والتقدير، فبفضلها أصبحت هذا الأدب معروفا بشكل كبير في الشرق الأوسط وفي البلدان العربية المختلفة، خاصة في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تم التعرف بشكل سهل على الأسماء البارزة في هذا المجال ، خاصة على أعلام جيل الخمسينيات أمثال، محمد ديب، مولود فرعون، مولود معمري، كاتب ياسين، مالك حداد، آسيا جبار..
المترجم سامي الدروبي:
سامي الدروبي، أديب وناقد ومترجم ودبلوماسي سوري، اشتهر بترجمته لجميع أعمال دوستويفسكي، كما له ترجمات لمؤلفين آخرين كتولستوي و بوشكين وميخائيل ليرمونتوف وغيرهم، وللمترجم أيضا ترجمات في حقل الفلسفة، إذ ترجم لكل من "كارل ماركس" و"جان بول سارتر"، وله ترجمات في حقل السياسية، إذ نقل إلى اللغة العربية كتاب موريس دوفرجيه "مدخل إلى علم السياسة"، و له أيضا ترجمات أخرى وفي حقول معرفية أخرى مثل علم النفس التجريبي وله كتابات متنوعة في الأدب والنقد، نشر الكثير منها في الصحافة الثقافية والمجلات النقدية.
لقد قام المترجم "سامي الدروبي" بترجمة نصوص الكاتب الجزائري محمد ديب، إذ ترجم له الثلاثية التي تتكون من "الدار الكبيرة" الصادرة سنة 1952 و"الحريق" الصادرة سنة 1954 و"النول" الصادرة سنة 1957 عن دار "لوساي" الفرنسية، وتروي هذه الثلاثية معاناة الشعب الجزائري مع الفقر والبؤس والأمية وسياسة التجهيل المعتمدة من قبل الإدارة الاستعمارية، ومدى مقاومته لهذه الإكراهات القاسية.