مدمنون يروون بمرارة وقوعهم في فخ مافيا "الصاروخ" و"الحلوة" و"التشوشنا"
• "الخلطة" والتفكك الأسري والبطالة أبرز أسباب الإدمان
• 20 إلى 40 مدمنا تستقبلهم المصلحة يوميا
• علاج نفساني وتحاليل دورية وبرامج رياضية وترفيهية لتخليص المدمنين من آثار المخدرات
• جهود جبارة للأطقم الطبية لانتشال الشباب من مستنقع المحظورات
كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا، عندما وصلنا إلى المؤسسة الاستشفائية المتخصصة للأمراض العقلية بسيدي الشحمي، كان الجو حارا والسماء ملبدة ببعض الغيوم البيضاء، الحركة وقتها كانت شبه منعدمة، عدا بعض السيارات التي كانت تخرج من المستشفى، قدمنا وثائق الأمر بالمهمة لعون الحراسة، وسمح لنا بالدخول مباشرة إلى مصلحة معالجة الإدمان، كانت في استقبالنا رئيسة المصلحة الدكتورة دحدوح عائشة، التي استقبلتنا أحسن استقبال ورحبت بنا، وقدمت لنا كافة التسهيلات لتأدية مهامنا، التي جئنا من أجلها والتي تدخل في سياق التحسيس بمخاطر تعاطي المخدرات، وجهود الأطباء والممرضين، لمساعدة المدمنين على التخلص من آثار الإدمان على هذه السموم، وكذا تسجيل بعض التصريحات مع شباب كانوا يتعاطون هذه المحظورات، وجاءوا بمحض إرادتهم للعلاج من آثار هذه المخدرات.
قصص مثيرة ومعاناة حقيقية
صراحة كنا متخوفين من عدم الحصول على تسجيلات مع هؤلاء المدمنين، على اعتبار أنه سبق لهم وأنهم رفضوا الإدلاء بأي تصريح للصحافة، ولكننا وفقنا هذه المرة بمساعدة أحد المدمنين على الكحول، وجدناه رفقة مجموعة من الشباب ينصحهم ويرشدهم ويشجعهم على الإقلاع عن هذه المهلوسات، هو كهل سنه بين 50 و55 سنة، أسمر البشرة، نحيف الجسم، اشتعل رأسه شيبا، حيث ألح على المجموعة التي كانت محاطة به، أن تدلي بتصريحاتها لنا، حتى يتعرف الشباب على مخاطر الإدمان والآثار السلبية الناجمة عنها .. وغيرها من الأضرار الأخرى الأسرية والاجتماعية والاقتصادية.. إلخ
وعلى الفور شرعنا في تسجيل الانطباعات، وأول مدمن استجوبناه يقطن بالجزائر العاصمة، حيث أكد لنا بأنه ندم ندما شديدا على تعاطيه هذه المحظورات، وخصوصا ما يعرف بـ"التشوشنا"، ليؤكد لنا هذا الشاب بأنها مادة خطيرة ولديها عدة أسماء "المسخة" "الكحلة" و"المسحورة"، حيث يقوم تسويقها الرعايا الأفارقة الذين يدخلون إلى الجزائر بطريقة غير شرعية، وهي غير معروفة في الغرب الجزائري ويتم تداولها على نطاق ضيق خصوصا الجزائر العاصمة والبليدة والمدية. مضيفا وعلامات الحسرة بادية على محياه بأنه جاء إلى وهران بكامل إرادته وأنه يريد القضاء نهائيا على آثار الإدمان، حيث ينوي الانطلاق من الصفر، وطي هذه الصفحة السوداء من حياته، مثنيا على جهود الأطقم الطبية، التي تبذل قصارى جهدها لإنقاذهم من براثن هذا المستنقع الخطير. داعيا الشباب إلى تجنب "الخلطة" التي تمثل السبب الرئيسي في تعاطي هذه السموم القاتلة.
علما أن "التشوشنا"، هي خليط من مادة "الهيروين"، تضاف إليها مواد كيمائية معقدة، قد تصل إلى عشرات المواد، مثل الكافيين والبراسيتمول و(MDMA) وهو عنصر تنشيط مصنوع بالكامل في المختبر من مواد كيميائية، وتعتبر "التشوشنا" من المخدرات الصلبة نظرًا إلى أثارها على الدماغ والمخاطر الصحية التي تشكلها، ويوجد أشكال عديدة لـ "التشوشنا" على غرار مسحوق بني أو قطع صلبة سوداء اللون، واستخدامها يتم عبر التدخين أو الاستنشاق أو تحقن مباشرة في الجسم، سواء في الوريد أو تحت الجلد، ويقدر ثمنها ما بين 1000 دج إلى غاية 8000 دج حسب النوعية والكمية. حيث تصيب من يتعاطى هذه المادة المحظورة، الاكتئاب وغثيان والإسهال. علما أن مفعولها لا يتعدى الثلاث ساعات، لتظهر بعدها أعراض خطيرة، كالتعرق الشديد، الهبات الساخنة، والاختناق، وأن خطورتها تكمن في كون أن الجسم يبدأ في التعود على المادة وتزداد كميات الاستهلاك مع مرور الأيام.
بعدها سجلنا مع شاب آخر من وهران، لمسنا ونحن نستمع إلى تصريحاته، أنه ندم ندما شديدا على تعاطيه هذه المواد المحظورة، حيث ظهر مرتبكا وأحيانا منفعلا بل وحتى قلقا يريد العلاج في أسرع وقت ممكن من الإدمان، للعودة إلى منزله والانطلاق في حياة جديدة، تنسيه آلام وأشجان دخوله هذا المستنقع الأسود والخطير، ليخبرنا بأنه قام بعدة محاولات انتحار لكنه نجى من الموت بأعجوبة، وقد وصل به الحد إلى استهلاك حوالي 90 قرصا من مهلوس "الروش"، مضيفا أنه دخل عالم الإدمان في سن مبكرة، وأن المشاكل الأسرية والبطالة، هما اللذان دفعاه إلى الوقوع في المحظورات، مشيرا إلى أن والدته ساعدتها كثيرا للتخلص من هذه البلوى، خاتما حديثه معنا بأنه ينوي الإقلاع نهائيا وقد بدأ في ممارسة الرياضة والمحافظة على الصلوات الخمسة، وأنه ينصح الشباب بتفادي "الخلطة"، والابتعاد عن رفقاء السوء، وطاعة الوالدين، لأنهم الحصن المنيع الذي يحمينا من كل المخاطر والأذى الذي يمكن أن يصيبنا.
سجلنا بعدها مع الكهل الذي تحدثنا عنه آنفا، في بداية الروبورتاج، حيث أكد لنا بأنه يبذل قصارى جهده، لتوعية الشباب الذي يعالج في هذه المصلحة من الإدمان، وأن الكثير ممن أراد التوقف عن متابعة رحلة العلاج والعودة إلى عالم تعاطي المخدرات، تراجع عن قراره، وقرر مواصلة هذه الرحلة، والكثير منهم شفي وتخلصوا من آثار هذه السموم الفتاكة، وقد عادوا إلى بيوتهم وهم يزاولون حياتهم اليوم بشكل طبيعي، مبرزا أن انتشار هذه الظاهرة الخطيرة، بات يهدد المجتمع ويجب تكثيف حملات التحسيس، لتوعية الشباب بالآثار السلبية الناجمة عن هذه الآفة الخطيرة، وأن الكثير من المدمنين الذين لم ينجوا من هذا المستنقع أصيبوا بالجنون وتم تحويلهم إلى مصحة الأمراض العقلية، أو حتى الموت في ظروف مأساوية على غرار الانتحار أو جرائم القتل والسرقات.
أولياء يتجرعون الألم
مكنتنا الزيارة التي قادتنا إلى هذه المصلحة المعروفة على المستوى الوطني، برصد آراء بعض الاولياء الذين وجدناهم رفقة أبنائهم، يحاولون إدخالهم إلى المصلحة لمتابعة العلاج، حيث ونحن نستمع إلى حديثهم، شعرنا بمدى الألم والمعاناة التي يكابدونها، حيث الكثير منهم لم يصدق أن ابنهم أو بنتهم يتعاطون المحظورات، وأنهم وصل بهم الأمر إلى سرقة لوازم البيت والهروب منه وتهديد الآباء والأمهات بالقتل، إذا لم يعطوهم الاموال لشراء المخدرات، وقد روت لنا سيدة نتحفظ عن ذكر اسمها ولقبها والحي الذي تقطن به في وهران، أنها لم تصدق أن ابنها البالغ من العمر 4 سنوات، يتعاطى "الصاروخ" و"الحلوة" مثلما يشاع عندنا في لهجتنا العامية، وقد قام ببيع عدة أجهزة تلفاز، لشراء هذه المهلوسات وأمرها ببيع قلادتها الذهبية حتى يشتري هذه السموم الفتاكة، وحتى لا يضيع منها قامت بجلبه إلى مصلحة معالجة الإدمان، حتى يتابع العلاج معترفة بأنها خائفة على مستقبل فلذة كبدها، خصوصا وأنه قاصر وقد راح ضحية "مافيا" المخدرات الذين أهلكوا الحرث والنسل، وقد أخبرتنا والدته بأنه سيتم إدخاله إلى المصلحة للعلاج، وهو ما سيخفف من آلامها، لاسيما وأن الشارع لا يرحم، وإذا لم تتكفل به وتحميه من هذه الذئاب المفترسة، فقد ينتهي به المطاف إلى الإصابة بالجنون أو يزج به في السجن مع الأحداث. كما روى لنا والد مدمن يقطن بإحدى ولايات غرب الوطن، وأن ابنه دخل إلى هذا العالم بسبب "الخلطة" مع العلم أنه كان يشتغل في محل لبيع الحلويات، وهو شاب مشهود له بالنزاهة والصدق والمواظبة في العمل، معترفا أنه في بداية الأمر كان يتعاطى المحظورات، لكنه نجح في إقناعه بالتوقف عن استهلاكها، لكنه وبسبب سفره إلى فرنسا وتغيبه عن البيت لقرابة الشهر، استغل ابنه هذا الفراغ، ليعود مجددا إلى تناول الأقراص المهلوسة، لينصحه بالتوقف عن تعاطيها واتباع برنامج صارم في مصلحة معالجة الإدمان، وهو ما قبله الابن واقتنع به في الأخير، كما علمنا أيضا أن العديد من الفتيات في مقتبل العمر، يتم التكفل بهم على مستوى هذه المصلحة، وقد روت لنا عاملة بالمستشفى قصة قاصرة تدعى "ملاك" كيف عانت مع عصابات المخدرات، حيث وصل بهم الأمر، إلى مطاردتها في بيتها وتهديد والديها باختطافها، وخوفا عليها قامت والدتها بتهريبها عند شقيقها القاطن بفرنسا، حتى لا تقوم هذه "المافيا" بإعادتها مجددا إلى هذا المحيط المظلم والظالم، علما أنها كانت تتابع العلاج في مصلحة الإدمان، وقد نجح الأطباء في إنقاذها من مخالب هذه الآفة القاتلة والخطير.
حتى الفتيات يتابعن العلاج
ولمعرفة جهود الأطقم الطبية وشبه الطبية العاملة، في هذه المؤسسة الاستشفائية المعروفة وطنيا وحتى دوليا، أجرينا بعض الحوارات مع مجموعة من الممرضين والاطباء المعالجين، حيث أكدوا لنا أن مهمتهم صعبة لكنها ليست مستحيلة، معترفين بانتشار وازدياد حالات الإدمان في السنوات الأخيرة، وأنه يجب تكثيف حملات التحسيس والتوعية في مختلف الهيئات بإشراك أئمة المساجد والمجتمع المدني والإعلام والجامعات، لاسيما وأن خطر هذه الظاهرة في تنام متزايد، وكشفت الدكتورة ودان ومعها الدكتور مناس، مختصان في الصحة العقلية، أن العلاج لا يقتصر فقط على الذكور، وإنما أيضا الإناث، حيث يوجد الكثير منهن في المصلحة، يتابعن برنامج المعالجة من تبعات الإدمان على الممنوعات، وأنه يوجد نوعان من العلاج الداخلي والخارجي، وهذا حسب حالات المدمن، إذا لم تكن معقدة، فإنه يعالج خارج أسوار المؤسسة الاستشفائية، والعكس صحيح، وأن المخدرات التي يتم استهلاكها متعددة منها : القنب الهندي أو حتى الأقراص المهلوسة على غرار "بريقابالين" وغيرها من الممنوعات الأخرى، علما أنها كلها تشكل خطورة على صحة الإنسان، وفترة العلاج من الإدمان غير محددة، بل هي مرتبطة بعدة عوامل، فمن من المدمنين من يحتاج فقط مدة شهر للتخلص من آثار هذه المحظورات ومنهم من يحتاج فترة أطول، ويدخل هنا العامل الأسري المساعد في ذلك. ومن جانبها أكدت الدكتورة عراب وهي أخصائية نفسانية، أنها تستقبل يوميا العديد من المدمنين ومن مختلف الفئات العمرية، حيث أحصت المصلحة بين 20 إلى 40 مدمنا يوميا، مضيفة أن نجاح العلاج يتقاسمه الطبيب والمريض بنسبة 50 بالمائة لكل واحد منهما، وأن الإرادة والعزيمة والإصرار على عدم الرجوع إلى تعاطي المخدرات، من أسباب النجاح، كاشفة أن المشاكل الأسرية والاجتماعية والبطالة والطلاق، تعد من أبرز العوامل المؤدية إلى عالم الإدمان. كما أكد لنا بعض الممرضين الذين تحدثنا معهم أنهم يعاملون المدمنين، كأفراد من أسرهم، حيث ينصحونهم ويتابعونهم ويرشدونهم بضرورة الكف عن استهلاك هذه المحظورات، وأنهم كثيرا ما نجحوا في إقناع العديد من الشباب المدمن، عن العدول وعدم العودة إلى هذا المستنقع الخطير.