يقول الله عز وجل : {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} سورة محمد الآية 38
إن المتأمل في هذه الآية يدرك أنها قد اشتملت على أسمى ألوان الدعوة إلى معالي الإيمان .
فهي تبيان لضرورة ترسيخ عقيدة في النفس ، تجعلها متيقنة من افتقار العبد إلى الرب، واستغناء الرب عن العالمين ، وهذا أساس في تطبيب هذه النفس والسعي بها إلى مواطن الشفاء والسلامة من آفة بخلها وشحها .
وذلك من خلال هذا النداء للمؤمنين للإنفاق في سبيل الله، الذي يشمل كل ما فيه نفع وخير، وفائدة وقربة ومثوبة. إنه نداء لكم ، أيها المؤمنون، يدعوكم ربكم لتنفقوا في سبيله أي في الجهاد وطريق الخير الكثيرة. وتنبيه لمن يبخل ، فإنما بخله عن نفسه أي: إنه يمنع نفسه الأجر والثواب . أما الله عز وجل فهو الغني، ليس بحاجة إلى أموالكم ، لأنكم أنتم الفقراء إليه . ألا وإن أسوأ من البخيل ذلك الذي يبخل ويأمر غيره بالبخل ، قال الله تعالى : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } سورة النساء الآية 37.
إن حقيقة البخل ، إنما تدور بين البطالة والغفلة والمعاصي والإشتغال بالشهوات ، فلا يزال العبد لاهيا في ماله، وأولاده، وزينته، ولاهثا يسعى وراء ملذات الدنيا من النساء، والمآكل والمشارب، والمساكن والمجالس، والمناظر والرياسات، منشغلا بكل عمل لا فائدة فيه ، حتى تستكمل دنياه، ويحضره أجله، فإذا هذه الأمور قد ولت عنه وفارقته ، ولم يحصل العبد من ورا ئها على طائل، ولم ينل منها فائدة ترجى.
لذلك فإن العطاء الحقيقي في الدنيا والآخرة لا يكفله إلا الله، دون سواه، وأنه عز وجل غني لا يسأل الناس شيئاً أو يحتاج إليهم ، فإنه إن يسأل الناس شيئاً فإن هذا سيضجرهم ويخرج ما في نفوسهم من طبيعة البخل والشح والتقتير،
وبالرغم من أن الله غني عن العالمين ، ولم يسلب من الناس ما ملكهم إياه وتفضل عليهم بعطائه ، إلا أن منهم من نفسه مصابة بداء البخل، لما دعاهم سبحانه لينفقوا في سبيله من بعض ما تفضل به عليهم، ليرد على فقرائهم ولينفق في مصالحهم ودفع أعدائهم ، بخل هؤلاء وأمسكوا عن الإنفاق ، فمن بخل فإنما بخله على نفسه لأن الله غني عن عباده والعباد هم الفقراء إليه في كل شيء ، فساعتها يتبين للعبد خسرانه وحرمانه، وحضور عذابه، فهذا موجب للعاقل أن يضرب عن البخل والتقتير ، ويتخلص نهائيا من داء الشح بمتاع الدنيا الفاني . ويسعى إلى مواطن البذل والعطاء بنفس راضية قانعة . ولا تنس قول الله تَعَالَى:{ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }سورة التغابن الآية 16.
وعن جابرٍ بن عبد الله أَنَّ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالَ:( اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيامَة، واتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُم عَلَى أَن سَفَكُوا دِمَاءَهم، واستحَلُّوا مَحَارِمَهُم ).
إن وصف الله تعالى بالغنى وصف لازم دائم له، ووصف العباد بالفقر وصف لازم ودائم لهم، أي لا ينفكون عنه. فالعبد فقير بحق يشهد افتقاره إلى مولاه في كل حين وآن، ولا شك أن صدق العبد الفقير في شهود فقره إلى الله. فمن افتقر إلى الله استغنى به عن العالمين، وذلك أقرب طريق للشفاء الحقيقي والسلامة من آفة الشح وداء البخل .
وأما من افتقر إلى غير الله فإنما وقع في ذُلّ وهوان داء البخل . ويقال: الله غنيّ عن طاعتكم، وأنتم الفقراء إلى رحمته. كما يقال: الله غنيّ لا يحتاج إليكم، وأنتم الفقراء لأنكم لا بديل لكم عنه .
فيا أخي الصائم إياك والبخل، فقد علمت ما جاء فيه من الذم، ودرِّبْ نفسك على الجود والكرم وتعامل مع الرب الكريم الذي لا تضيع عنده مثاقيل الذر.
فما بالك وأنت تعيش في أيام مباركات من أيام الله، من شهر رمضان الفضيل، وفي العشر الأواخر الأكثر بركة ، العمل الصالح فيهن بأضعاف مضاعفة من الأجر والجزاء، فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في شهر رمضان المبارك، في الخير كله والتوسعه على أهله، وهو في هذه العشر الأواخر أجود بالخير من الريح المرسلة ، فلا تنس أن البخيل حبيب الشيطان ، وبغيض إلى الرحمن ، فكن أخي يرعاك الله، حبيبا للرحمن، لا حبيبا للشيطان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين