ها أنت.. وأنت تقرأ سورة البلد، يتعثر لسانك بـ"عقبةٍ"، فإذا هي تقف في طريقك كأداء، تسدّ أمامك المنافذ كلّها، فلا تجد سبيلا إلى تجاوز حدّها، أو الالتفاف حولها، أو ارتقاء ظهرها. إنّها هنا قائمةٌ بهيكلها الضّخم، ناتئة من كبد الأرض الذي تطأها السّاعة وأنت سائر إلى ربّك، مطمئن في سيرك، تُسارع إلى العبادات من صلاة، وصيام، وحج... وتحسب أنّ ذلك كافٍ، وأنّه سيضمن لك الجنّة إن شاء الله. غير أنّك السّاعة تقفُ وقد سُدَّ الطريق أمامك، فلا مسلكَ ولا منفذَ، ولا سبيلَ إلى الانتكاس والرّجوع، وأنت تعلم ما في الانتكاس من خسارة وبوار. فتقرأ قوله تعالى، فإذا به يستحثك: (فَلَا ٱقتَحَمَ ٱلعَقَبَةَ١١ وَمَا أَدرَىٰكَ مَا ٱلعَقَبَةُ١٢ فَكُّ رَقَبَةٍ١٣ أَو إِطعام فِي يَوم ذِي مَسغَبَة١٤ يَتِيما ذَا مَقرَبَةٍ١٥ أَو مِسكِينا ذَا مَترَبَة١٦ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَواْ بِٱلصَّبرِ وَتَوَاصَواْ بِٱلمَرحَمَةِ١٧ أُوْلَٰئِكَ أَصحَٰبُ ٱلمَيمَنَةِ١٨ (البلد) وتقول لك اللُّغة من وراء كلماتها أن الاقتحام هو الدّخول في الأمر الشّديد. وأنّ ركوب القَحَم، وهو ركوب الأمور العِظَام. هنا... ستُجِيل البصر يمينا وشمالا بحثا عن حلّ يخرجك من مأزقك، فلا تجد إلاّ الاقتحام سبيلا إلى ذلك. عليك أن تواجه "العقبة"، أن تضرب بمعاولك في كبدها وصُلبها، أن تفُتَّ من حجارتها وصخرها، أن تزيلها نهائيا من طريقك، حتى لا تتكرّر مرة أخرى في مسلكك. لأنّها عقبة قائمة في نفسك تحملها معك أينما اتّجهت، تحول دون انطلاقك إلى ربِّك. لذلك قال الحسن رضي الله عنه:( عقبة الله شديدة: هي مجاهدة الإنسان نفسه، وهواه، وعدوّه من شياطين الإنس والجنّ.) بيد أنّ الله عز وجلّ يُجسدها أمامك تجسيدا لا تخطئه العين أبدا: (فَكُّ رَقَبَةٍ١٣ أَو إِطعَٰم فِي يَوم ذِي مَسغَبَة١٤ يَتِيما ذَا مَقرَبَةٍ١٥ أَو مِسكِينا ذَا مَترَبَة١٦ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَواْ بِٱلصَّبرِ وَتَوَاصَواْ بِٱلمَرحَمَةِ١٧) صار الآن في إمكانك أن تعرف طبيعتها: إنّها في فك الرّقبة، وأن تعيد لإنسان حريته المسلوبة، وفي إطعامٍ في يوم كثر فيه الجوع وتعدّد فيه الجوعى، من يتيم قريب، أو مسكين غريب، وفي تواصٍ بالصبر وتواصٍ بالمرحمة. إنّها في منهج حياة قائم على بذلٍ وعطاءٍ، يُرْفَع فيه الاستعباد عن رقاب النّاس، ويُقهر به جشعُ النّفس وبُخلُها، وتقوى به صِلةُ الأرحام، ويسلمُ به المجتمع بالوصيَّة والتَّراحم. وقد لمس بعض السّلف في الآية دعوة الله عز وجلّ عبادَهُ لذلك الاقتحام وحضّهم عليه. فقد قال القفّال: " فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ " أيْ هَلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة؟ ) ليكون أخيرا من أصحاب الميمنة.(