شعار الاستئذان والاستعانة.....بسم الله الرحمن الرحيم ...بوابة أفعال البرّ كلّها

شعار الاستئذان والاستعانة.....بسم الله الرحمن الرحيم ...بوابة أفعال البرّ كلّها
اخبار متنوعة
ذكر كثير من السّادة العلماء: (أنّ النّظر في المصحف الشّريف عبادة) لأنّ النّظر إلى رسم القرآن الكريم يرفع إلى العين، والعقل، والقلب، شكل كلمات الوحي. فيرى القارئ من خلال أحوال رسمها كيف استطاعت أن تحمل مراد الله عزّ وجلّ، وكيف قدرت على أن ترفع مقاصد كلامه واضحة الشّكل بيّنة الدّلالة للمتدبّر في كتاب الله. ومن هنا كان النّظر في المصحف الشّريف أول الخطوات التي تنفتح عليها عين القارئ مقبلا على الآيات والسّور، يتشرّب حروف الوحي وكلماته، في شكلها ورسمها، في تشكيلها وأحوال مدّها وحذفها، في غنّتها وإمالتها،و فيحدّ حروفها قبضا واستطالة. إنّنا حينما نتوقف أمام هذه "السّبيكة"القولية: "البسملة": (بسم الله الرّحمن الرّحيم) كما يسميها أهل اللّغة والبلاغة، معتمدين فيها على معاني السّبك، والنّسج، والسّرد. والتي قدّمها الإسلامُ بوابةً لكلّ أعمال البّر في حياة الإنسان المسلم، وجعلها تاجا على رأس كلّ سورة من سور القرآن الكريم. فهي كما ذكر بعض السّابقين تتبادل الدّور مع "الاستعاذة" في الدّلالة والفعل. وكأنّ من سمّى الله عزّ وجلّ فقد استعاذ بالله من الشيطان الرّجيم ضمْنا قبل شروعه في العمل الذي يريده. وعين الشّأن فيمن تعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم فقد سمى باسم الله. ذكر "النّسفيّ(ت 710)" "في مدارك التّنزيل وحقائق التّأويل" أنّ: (التّسمية تنويه بالمسمّى وإشادة بذكر الله عزّ وجلّ). وكأنّ المُسمِّي، يدرك جيدا أنّه يتصرّف فيما سخّره له الله عزّ وجلّ من موجودات، فهو لا يستطيع أن يباشرها بطاقته إلاّ مستعينا بالله عزّ وجلّ. وهو بذلك يستمدّ العون من الله ابتداء، لأنّه يدرك أن لا طاقة له في تصريفها إلاّ مستندا إلى عون الله عزّ وجلّ. كالفلاح الذي يدسّ البذرة في التّرابفي موسم الزّرع. فقد يسقي البذرة أو لا يسقيها. ولكن الذي يحدث بعد ذلك فهو من فعل الله عزّ وجلّ، حينما يجعل البذرة تنتش، فيخرج منها ساقها، ومن ساقها تتفرّع أغصانها، ومن أغصانها تخرج الثّمرات سنابل وبذورا. هذا الإدراك الفطري في المسلم يجعله يبادر مع كلّ فعل من الأفعال أن يبدأ بالتّسمية مستعينا بالله عزّ وجلّ. بيد أنّنا نجد كذلك، حينما نتدبّر الوضع في تفاصيله أنّنا بالتّسمية نستأذن الله عزّ وجلّ فيما خلق وسخّر. وكأنّنا حينما نُقبل على البذرة أول الأمر لنحملها في أكفنا نُسمِّي الله لنستأذنه في فعل سنقبل عليه، ونحن نعلم أن لا حول لنا ولا قوّة في بدئه ومنتهاه. إنّ التّسمية (البسملة) من هذه النّاحية، استئذانُ المسلمِ من الله عزّ وجلّ حتى يمدّ يده إلى ملكه الله عزّ وجل، ثم استعانة من أجل الفعل الذي يعتزم القيام به. وفي هذه الأحوال يجد المسلم حضور الله عزّ وجل في النّية ابتداء، وحضوره في إتمام المراد ثانيا. لأنّنا إذا تأملنا كلّ نشاط يقوم به الإنسان في هذه الدنيا، لا يمكن أن يتمّ على الوجه الذي يطرحُ فيه الله عزّ وجلّ البركة، والخير،والنّماء، والاستمرار إلاّ من خلال هذه "العتبة" التي جعلها الله عزّ وجلّ شعارا لا يفترُ المسلم عن ترديده، قائما أو قاعدا. ومعناه في قلبه واعتقاده أنّه لا يفعل فعلاً، ولا يذكر شيئا إلاّ مستعينا بالله في فعله، مستأذنا الله فيه، مستعيذا بالله من الشّيطان الرجيم. والمتأمل للبسملة، يجد في سبيكتها اللّغوية ثلاثة أسماء لله عزّ وجل. أو على وجه التّدقيق يجد اسمين وصفة. والسّبيكة التي ابتُدِئَت ببسم "الله" خُتمت كذلك باسم لله هو "الرّحمن" لتشير للذّاكر أن الأمر يدور في هذا الذّكر الخاصّ بين اسمين: اختص الأول بالخلق والإبداع والإيجاد، واختص الثّاني بالرّحمة لكلّ مخلوق موجود. فالذي خلق وبرأ، بسط رحمته على كلّ المخلوقات ولم يستثن منها شيئا. وذلك عدْلُه في خلقه. غير أنّ صفة "الرّحيم" فلها بعد ذلك شأن آخر. قال عنه العلماء وهم يقفون على أسماء الله في البسملة: (الرَّحْمَنُ بِمَعْنَى الْعُمُومِ وَالرَّحِيمُ بِمَعْنَى الْخُصُوصِ. فَالرَّحْمَنُ بِمَعْنَى الرَّزَّاقِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ لِكَافَّةِ الْخَلْقِ. وَالرَّحِيمُ بِمَعْنَى الْمُعَافِي فِي الْآخِرَةِ وَالْعَفْوُ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْخُصُوصِ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الدُّعَاءِ: يَا رَحْمَنَ الدُّنْيَا وَرَحِيمَ الْآخِرَةِ، فَالرَّحْمَنُ مَنْ تَصِلُ رَحْمَتُهُ إِلَى الْخَلْقِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالرَّحِيمُ مَنْ تَصِلُ رَحْمَتُهُ إِلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَلِذَلِكَ يُدْعَى غَيْرُ اللَّهِ رَحِيمًا وَلَا يُدْعَى غَيْرُ اللَّهِ رَحْمَنَ.) والمؤمن إذا تفحص هذا القول جيدا وجد أنّه ينال الرّحمة من مصدرين: اسم وصفة. فهو ينال قسطه من الرّحمة العامة، شأنه شأن كافة المخلوقات، ثم ينال بإيمانه رحمة لطيفة تأتيه من الرّحيم في الدّنيا وفي الآخرة. وذلك تفضُّل الله على عباده المؤمنين حينما رفعهم إلى هذه الدّرجة من مقامات الفضل ليخصّهم برحيميته، بعد رحمانيته. والبسملة بعد هذا ضمان لأن يكون عمل المسلم عملا تاما كاملا من باب التّوكل على الله عزّ وجلّ. فقد عقد النّية في كلّ حركة يتحرّكها، وفي كلّ فعل يقوم به على الاستعانة بالله، والاستئذان منه. وليس من معاني التّوكل أوسعَ من هذه الصّورة التي يقدمها المُسمّي وهو يفتتح عمله أو نيته بالبسملة، ويختمه بالحمد والشّكر. وفي هذا مقدار كبير من توقير الله عزّ وجلّ، واعتراف بقدره، وخشوع وخضوع بين يديه. وكأنّ البسملة اعترافٌ بالمنعِم وشكرا له على نِعمه، وتسليمٌ بحضوره واطلاعه على أفعال عباده.

يرجى كتابة : تعليقك