عندما أتحدث عن القصة القصيرة يكون في حديثي حماسة، وعندما أتحدث عن تراجعها يكون في حديثي غصّة وألم ذلك، لأني من جيل تفتقت موهبته على القصة القصيرة، ونشأ على المجاميع القصصية التي كتبها كبار الكتاب الجزائريين والعرب، شهيتي تفتحت على ما كتبه" أحمد رضا حوحو" الذي استطاع أن يبني عالما قصصيا عبّر به عن واقع المجتمع الجزائري .. قرأت له نماذج بشرية وصاحبة الوحي، وقد امتزج فيهما الصوت الرومانسي والإصلاحي والثوري .. قرأت للمجاهدة والكاتبة زهور ونيسي، عبد الحميد بن هدوقة، الطاهر وطار وكثير من الكتاب الجزائريين الذين أبدعوا في هذا الفن .
الكتاب العرب أيضا كانوا حاضرين في قراءاتي الأولى منهم زكريا تامر، محمد تيمور وإحسان عبد القدوس،استمتعت وأنا أقرأ لغسان كنفاني وجبران خليل جبران، هؤلاء هم الذين نسجوا خيوط حكاية عشقي للقصة القصيرة التي كتبتها منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وظللت وفية لها لأكثر من ثلاثين سنة، وأشعر الآن بكثير من الحسرة لأني لم أتصور يوما أنه سيكون هذا الهجر القاسي للقصة ..
القصة القصيرة هذا التعبير الفني المكثف الذي كان صوت ومشاعر البسطاء، والذي يعتمد على الإيحاء واللغة الدلالية، ازدهرت في القرن التاسع عشر ازدهارا كبيرا وراحت تتجدد بشكل ملف للانتباه .. فجأة بدأت تتراجع شيئا فشيئا، وأصبح التراجع مخيفا، حيث هجرها أغلب الكتاب لأسباب كثيرة، أولها اختفاء أغلب الصفحات والملاحق الثقافية، لأني أرى أن القصة ازدهرت وعاشت عصرها الذهبي في زمن الصفحات الثقافية التي كان يشرف عليها كبار الكتاب والنقاد، وكانت مساحتها ملائمة لنشر القصة أكثر من الرواية، فكان نشر قصة قصيرة في ملحق ثقافي بمثابة إصدار، لأنها تجد قراءة واسعة واهتماما كبيرا في ظل ازدهار الصحافة المكتوبة، وبتراجع هذه الصفحات تراجعت.
ومن أسباب تراجع القصة أيضا أن الكاتب أصبح يرى فضاءها ضيقا يقيد رغبته في الانطلاق إلى أزمنة متعددة وأمكنة كثيرة وشخصيات مختلفة، فخرج إلى فضاء أوسع وهو الرواية، وقد قالت المجاهدة والكاتبة وسيدة الحرف في الجزائر زهور ونيسي: " في البداية كتبت القصة القصيرة، ثم وجدت نفسي فجأة في خضمّ كتابة رواية، ربما تكون القصة أصعب من كتابة رواية، لأن الرواية تتضمن مجالا واسعا للتخيل وتوالد الأفكار والشخصيات والمصائر والحوارات والأحاديث وغير ذلك "، وهي فن فيه من السهولة والامتناع ما جعل الكاتب بشير خلف يقول : " القصة القصيرة هي فن مراوغ ، وحصان جامح يحتاج إلى قائد بارع يروّض هذا الفن ، كاتب يتمكن من كبح جماح فرس القصة القصيرة بكفاءته التقنية".
ومن الأسباب التي أراها ساهمت بشكل كبير في تراجع القصة القصيرة دور النشر التي أصبحت منحازة بشكل كبير وواضح للرواية، تهتم بها وتروج لها، وتقدمها على المجاميع القصصية، ولا ننسى أن الجوائز العربية الكبرى مثل "البوكر" و"كاتارا" وغيرهما هي للرواية، ولهذا اتجه إليها أغلب الكتاب رغبة في الفوز بإحدى هذه الجوائز وفي الشهرة، لكن المؤلم أنهم أصبحوا ينظرون إلى كتاب القصة نظرة تجعلهم يشعرون أنهم أقل مستوى من الذين يكتبون الرواية، وهذا ما قالته الكاتبة نسيمة بولوفة " كاتب القصة في الجزائر ينظر إليه بدونية "، ولهذا تركوها وسعوا وراء بريق الرواية .
ومن خلال البرنامج الأدبي الذي أقدمه من إذاعة ميلة منذ 2009 وقفت على هذا التراجع الكبير للقصة القصيرة، فإذا استضفت عشرة كتاب للرواية قد لا أجد كاتبا واحدا للقصة القصيرة أستضيفه، الكبار تركوا القصة ودخلوا عالم الرواية ، والأدباء الشباب بدأوا بالرواية مع أني أجد في هذا خللا كبيرا في اكتساب أدوات الكتابة وتقنياتها، فالتمرّس في كتابة القصة القصيرة والقدرة على حبك عقدتها ولو كانت قصيرة زمنيا يجعل منك روائيا ناجحا .. أغلب الروائيين في العالم بدأوا بكتابة القصة .
ومع ذلك هناك بعض الأوفياء للقصة القصيرة الذين مازالوا يصدرون المجاميع القصصية، ففي الأسبوع الماضي استضفت الكاتبة "سكينة مرباح" التي أصدرت مجموعتها القصصية "أمنية أبي" وأبدعت فيها أيّما إبداع .. سكينة مرباح التي تكتب القصة القصيرة منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن دون أن تهجرها للرواية، أيضا الكاتب جعفر رابح الذي صنع الاستثناء بمجموعته القصصية " دموع الكورنيش"، ويستعد الآن لإخراج مجموعته القصصية الثانية، الكاتبة رتيبة بودلال التي عرفتها منذ سنوات طويلة تكتب القصة القصيرة لها مجموعة قصصية بعنوان " ضمأ الغيمة السابعة " دون أن أنسى الكاتب عمار بولحبال الذي تميز في مجموعته القصصية " كرنفال المدينة المنسية "
والحقيقة أن المشهد الأدبي لا يخلو من إصدارات قصصية كل عام، ولكن هناك تعتيم أو عدم اهتمام بها مثلما يحدث إذا صدرت رواية ، فنجد المجموعة القصصية "عليها ثلاثة عشر" للكاتبة الجزائرية أمل بوشارب ، " أزمنة الرحيل" لعبد الرزاق بادي " سيزيف يتصنع ابتسامة " للكاتب محمد الصالح قارف " رائحة الفضة " للصحفية زهية منصر " نقطة إلى الجحيم " للكاتب والناقد السعيد بوطاجين " أحلام الفجر الكاذب " للكاتب والروائي مصطفى بوغازي، وهناك عناوين كثيرة صدرت في السنوات الأخيرة، ولا يمكن حصرها هنا ، لكني كمهتمة بالقصة أعرف أغلبها.
وصدور كتاب "سلالة شهرزاد" للكتاب الجزائري "الخير شوار"، يدل على أن هناك اهتمام بالقصة القصيرة، إذ أن هذا الكتاب يجمع أسماء 27 قاصا جزائريا يربط بينهم فن الحكاية والاشتغال عليها منذ ثمانينات القرن الماضي ، وعرف بأهم الأسماء في مجال القصة، وكذلك كتاب أنطولوجيا القصة القصيرة النسوية الذي صدر سنة 2013 للكاتبة الجزائرية "جميلة زنير " صاحبة المجموعة القصصية "جنية البحر" ، ومن غريب الصدف أنها السنة نفسها التي فازت فيها سيدة القصة القصيرة المعاصرة بجائزة نوبل للآداب ، وهي الكندية "أليس مونرو"، وأختم بما قاله الكاتب يوسف شنيتي:"القصة لن تموت، والذين يهدرونها فقراء في إقناع القارئ".