♦️ "لا يسافر المرء لكي يصل؛ بل لكي يسافر.." يوهان غوته.
يأتي كتاب (اهبطوا مصرَ) للكاتب جمال معطاالله مفعما بالحنين، الذي بدا من فواعل إكراهات الكتابة منذ البداية، فمجيء عنوان النص بصيغة الأمر، يفيد دلالة ترغيب المشاركة، ومقاسمة التجربة الحياتية. النّص من أدب الرحلة، وإن لم يأت التجنيس صريحا على وجه الغلاف؛ لكنه مُهر على كعبه، الذي قد لا يلتفت إليه الزائر لأروقة المعارض أو رفوف المكتبات، وهو سؤال يطرح من المتلقي.
هل سقط التجنيس غفلا من النّاشر، أم تُرك عمدا من الكاتب؟، في الأحوال كلها، النص رحلي بامتياز، يفيض فيه الوجدان لتوثيق اللّحظة، وشغف تصوير المشهد، بيد أن ما يجعلك تثق بالكاتب؛ صدقه مع ذاته، مما جعله متحرّرا في كثير من المواقف الحرجة.
بداية التمس من الكاتب العراقي صموئيل شمعون، استعاضة عنوان روايته (عراقي في باريس)، لأسقطه على هذا النص (تواتي في القاهرة)، يستدعي جمال في هذا السّفر يومياته بالقاهرة، عندما ذهب للدراسة هناك، بمعهد البحوث والدراسات العربية (2013.2008)، وهي الفترة، التي شكّلت المادة النّفعية من الرحلة ولها.
شاب صحراوي جزائري طموح، يجدُ في نفسه أمنية مؤجّلة، لمواصلة الدراسات العليا، فيعثر على فرصة بمصر الشقيقة، تُسكّن له ذلك الأرق، فيضحي بجزء من المال، في مرحلة حاسمة من بداية حياته، يرى أقرانه فيها، يوظّفون ما صرفه، في كتل الإسمنت وتعمير البيوت والزواج، فيزهد في هذا، ويتشبّث بذاك، فأقدار الدراسة المصروفة بمصر، لم يذهب إليها، هروبا من الكفاءة أو العيّ، كان يمكن أن ينجح هنا وبلاء عناء، لو واتته الفرصة، إنما تعجيلا في تبريد جمرة ما بعد التدرّج.
يمثّل هذا الكتاب، التجربة الثانية للكاتب جمال معطاالله، بعد تجربته الأولى (أضحك وأبكى) الصادرة عن دار ساجد الجزائر 2021، فعبر 130 صفحة، يسافر بنا جمال لأرض الكنانة، دون تأشيرة أو جواز سفر، فيقدّم لنا مشاهد مؤنسة للرحلة، عالية الجودة في التقاط الصور البصرية، من يوميات المجتمع المصري، مستشعرا أحاسيس اغتراب الأنا وتشابكها مع الآخر، مستفيدا من تخصّصه الفلسفي، الذي اكتسبه خلال مرحلة اللّيسانس بجامعة وهران، ليقدّم لنا وجبة أدبية تأملية، في أسلوب رشيق، وسرد بديع.
إننا أمام ذات واعية، لا تسرد الحدث المشاهد فقط؛ إنما تقف منه موقف الناقد، فمثلا عند ذهابه لمصر، واكتشافه للمقرّر الدراسي، وبرمجتهم لتاريخ المجاهدة جميلة بوحيرد، يدخل في سؤال ذاتي مع نفسه، لعدم برمجة تاريخ هذه الشخصية الثورية، في المقررات الدراسية بالجزائر، وعدم معرفة الناشئة بتاريخهم.
فالذات التواتية الصحراوية الجزائرية، حاضرة على الدوام، وفي المواقف كلها، تستوقفه المشاهد اليومية للإنسان الكادح، ويتأمل المشهد السياسي، والأكاديمي، والمناخ الثقافي العام.
الكتاب قدّمه للقراء، الأكاديمي سرقمة عاشور، تتشكّل مادة الكتاب، من مقدّمة، أعرب فيها الكاتب، عن تداعيات كتابة هذا النص، كثّفها في إحدى عبارات المقدّمة: (رحلتي إلى مصر، التي دامت قرابة أربع سنوات، لم تكن مجرد رحلة للدراسة فحسب، رحلة أخذت مني لتعطيني، عذّبتني لتخلّصني، أفقرتني لتغنيني، أبكتني لتضحكني..).
أعطى لكل مقصد مفصول عنوانا، جاء الأول بعنوان (بسم الله مجراها ومرساها)، وهو تناص، يظهر الخلفية القرآنية للكاتب، تمثّل فيه بداية هواجس الرحلة، قبل إنهاء الخدمة الوطنية عام 2007، وما أعقبها من استعداد للرحيل وبداياته الصعبة، العنوان الثاني (الحياة في مصر)، يسرد فيه حياته في القاهرة، وتأقلمه مع الوضع الجديد، الذي أجمله في عبارة: (لم أجد عنوانا مختصرا، أصف به الحياة في مصر بشكل عام؛ سوى أنه بلد المتناقضات..).
العنوان الثالث (السياحة في مصر)، سرد فيه زياراته لأهرامات الجيزة، ونهر النيل، ومدينة السنبلاوين، ومدينة الإسكندرية، ومزارات الأزهر الشريف، وجامع سيدنا الحسين، أما العنوان الرابع (في معهد البحوث والدراسات العربية)، يرصد لنا فيه، الجو الدراسي الأكاديمي، وما يتألّف منه، من طلبة أجانب، وأساتذة، ومكتبة، وبحوث، وغيرها من الحياة العلمية لطالب باحث.
العنوان الرابع (اسألوا بشرتي عنّي)، وهو الجزء المثير، فيضحك ويشاركنا ضحكته، عندما شاهده أحد المصريين يركب سيارة، فلوى عنق سيارته، يطارد المركبة الناقلة له، فيوقف المصري السيارة، رجاء أخذ صورة مع هذا اللاّعب الإفريقي المحترف، القادم للقاهرة من جنوب الصحراء الكبرى، فيشرق من القهقهة، التي تنتقل إلينا عدواها، خلال فعل القراءة، فسحنته السمراء، لم يجعل منها عقدة؛ بل صيّرها قوة لهويته وشخصيته، مما جعله متحرّرا، غير مكترث بالموقف، وهو بهذا يمنحنا شيئا من الصدق، الذي يجعل المتلقي يتعاطف معه، وفي الأخير يثق به.
العنوان الخامس (المقابلة الفاصلة.. أم درمان السودان نوفمبر 2009)، وهو الجزء الذي يشكّل، مرحلة الصراع من الرحلة، بكل ما حملته مقابلة الجزائر مع مصر، وتداعيات موقعة أم درمان، وما صاحبها من قلاقل، وجو مشحون، لا يخلو من كدمات توتّر، فيما أتى العنوان السادس خالصا للبحث والقراءة بمكتبة الجامعة (في مكتبتي جامعة القاهرة وعين شمس)، أما العنوان السابع (الخالات والأمهات العزيزات)، فسرد فيه عطف خالات الغربة، وما منحن له من دفء، عوّضه قليلا من نوستالجيا أمه.
باقي العناوين، جاءت متحدّثة عن خواتم الرحلة، وما يشملها من مناقشة الماجستير؛ عدا عنوان (الثورة المصرية 2011)، الذي وصف فيه أحداث الثورة بمصر، ووقوفه كشاهد عيان لأحداثها ومصائرها.
جدير بالذكر، أن الكتاب صدر عن دار ساجد للنشر والتوزيع، ط2022، الجزائر.
