تململ الشيخ في فراشه، وهو يعالج سعالا اهتز له جسمه المنهار، وصار يجول ببصره الخائر نحو أبنائه الذين تحلقوا حوله في صمت وسكون رهيبين، في انتظار ساعة البكاء والنحيب. تحرّكت شفتاه الجافتان، لتخرج كلمات متقاطعة تتخللها حشرجات صدرية، ليلخص الشيخ من خلالها سيرة حياته التي يعيش أعقاب أعقابها: " ها أنا، ألفظ آخر أنفاسي،لأرتاح. وإني غير آسف، إذا حقق الله أمنيتي". سادت البيت ظلمة حالكة في وضح النهار، ظلمة نفسية، حاكها الصخب النسوي، والبكاء القلبي، والدموع المكبوتة، خرج البشير باحثا عن النور، عن الهواء، فحملته رجلاه إلى خارج البيت، ليجلس على عتبة الباب ويدسّ وجهه بين كفيه، ليسرح به الخيال.. على إثر قبلات حارة، وعبرات مسكوبة، صار الأب يدلل رضيعه بكلمات مرّة:
ــ "الوداع الوداع يا صغيري، سأرحل لآتيك بخبز وحليب، وكساء، سأرحل، وأشواك الغربة.." تقدم الأب خطوتين ليلج في دوامة كلامية: ــ " سأرحل عنك أيتها القرية الشحيحة، طفتك زقاقا زقاقا، فلم أجد منك إلاّ الصدّ. وقعت فريسة للبطالة المشؤومة وزبانيتها: الجوع والمرض والفراغ. أخرج من كوخي إلى حيث لا أدري، وأعود صفر اليدين خاوي الوفاض.. وأمرّ ما مرّ بي، أن يختطف الموت ابني البكر، من بين يدي، ولا طعام ولا دواء ولا غطاء... لقد عقرتك فرنسا بمنع الشغل، لكني لن أسمح لغولك أن يعضّ ابني بجوعه، ولا أن يلسعه ببرده ،سأدخل غار الفحم وأتمرغ في سواده، وأقدم رئتي قربانا ليحيا البشير ابني... لن أتحجّر أبدا، لن أتجمّد ، سأكون علقما في حنجرة البطالة". وإذا بصوت خافت يأتي من أعماق الكوخ، ليسكت هذا الهدير، ويحوّل الخيال إلى واقع حقيقي، إنها زينب زوجته: "سر على بركة الله يا أحمد، فيداي الكليلتان لا زالتا تنسجان من الصوف والحلفاء ما نسدّ به الرمق ".
خرج أحمد لا يلوي على شيء، يرمي خطاه وكأنّه يمشي على الوحل، يتخطى الهياكل العظمية والجماجم الحيوانية التي قتلها الجفاف المستمر، تطارده الأصوات المزعجة، والأشباح المخيفة، أنين المرضى، وشخير النيام، حرّك رجليه ليجري لكنه تعثر، حمل جسمه في جهد وصار يجري ويجري، يلاحق القطار وتلاحقه المجاعة، مجاعة خمس وأربعين، تسلق القطار البطيء ثم ألقى بنفسه على الكرسي الخشبي، وتنفس الصعداء. أسند مؤخرة رأسه على لوحة الكرسي،ودخل في دوامة جديدة: "أسرع أيها القطار العجوز ألا تعرفني، أنا الذي سأخرج لك وقودك الذي تتحرك به، بيدي هاتين وبعيني ورئتي، تحت جبروت الاستعمار، ليحيا ابني ويحيا شعبي...سأحفر الغار بأظافري، وسأخرج الفحم الحجري ... أعرف أن عرقي سيذهب هباء، لأن مستعبدي الغاشم يسقونه ويسكتونني بفرنكات لا تغني من جوع ، لكني قبلت الصفقة الجائرة، ليحيا شعبي، ويعيش ابني، سيكبر ابني ويكبر شعبي، وستتحول بلادي إلى سيل عارم يجرف الظالم المغتصب، نعم ثماني ساعات متواصلة، ونحن في غار نصارع الفحم، ونغوص في الظلام والعرق والتعب، لتحترق الرئات وتعمى الأبصار، وتتصدع الأعصاب، كل هذا ليعيش أبناؤنا ويحيا شعبنا ، ...سأنفث دما ليغرق فيه مستعبدي، وستتوقف أيها القطار لأن روحك بيدي".
أفاق البشير من غفوته، وقد تذكر مسار أبيه وهو ثمرة كل هذه المعاناة، وصار يخاطب والده:" نم قرير العين يا أبي لقد تحققت آمالك، إذ استطاع الثوّار أن يهزموا الاستعمار الفرنسي، وتعود الثروات لأهلها ويؤمّم البترول ليستفيد منه أبناء الجزائر ".
