الصحراء هذه الفيلسوفة التي تعرف جيّدا كيف تستفزّك بأسئلتها العميقة التي تحفر في وجودك وفي ماهيته وأنت تقف منبهرا بامتداد رملها وكأنّ لا شيء بعده ، حتى تفاجئك واحات النخيل والسواقي تظهر أمامك لتقول تناقضات الحياة، الصمت والكلام، الموت والحياة .
ثمّ تزداد دهشتك، وقد عرفت بأنّ للرمل أشكالا وألوانا، رمال متحركة و رمال ثابتة، رمال بألوان مختلفة، تحاصرك، وتنفتح من حولك لتشكّل لوحدها كونا مدهشا.
هذه الصحراء شاء القدر أن أولد فيها وأن أترعرع فيها، فوجدتني أمتلئ بها، وحين أدرك قلمي فنّ الكتابة لم يستطع الانعتاق والإفلات إلى نص آخر خارج رملها، وقصورها الطينية وما اختزنته ذاكرتها من جميل القول والغناء، ودقة الرسوم والنقوش في صخرها، وتراث زاخر عابق بالجمال، فوجدتني ألبسها حبّا و وجعا ، وهذا ما عبرت عنه في روايتي "الخابية" عندما تحدثت عن القصر الطيني و سوره بأنّ مدننا صارت عارية في غياب سور الطين، الذي لا يعني شكلا معماريا بقدر ما يعني جملة من القيم الاجتماعية التي تدعو للتكافل والتراحم والتسامح.
كما أنّني ارتكزت في كتابة قصة "وردة الرمال" على سحر هذه العجيبة الطبيعية وردة الرمال التي مهما تقتلع من مكانها لا تذبل ، في حين أنّ الوردة العادية إذا ما قطفت سرعان ما تذبل و تموت.مثلها تماما تمثلت إنسان الصحراء مهما اقتلع من جذوره سيظل قويا مقاوما للذوبان في الآخر، خاصة في ظلّ غول العولمة.
وفي روايتي "وادي الحنّاء" ظلّ الوفاء للرمل وللصحراء، لكن بصيغة أخرى حين ارتكزت على فكرة الحناء التي تزخر بها مدينة أدرار، أوراق الحناء التي تزين أفراحنا، بل إنّها رمز الفرح لا يمكن أن تعطينا ذلك اللون المبهج، إلا إذا جففت ثمّ سحقت سحقا، كذلك هو إنسان الصحراء، الطبيعة القاسية والظروف القاهرة لا تقتله، بل تزيده ثباتا وعزيمة لتحقيق أحلامه وطموحاته في هذه الحياة.
وحتى وقلمي يحن إلى فردوسنا المفقود الأندلس في روايتي "قلب الإسباني" كمحاولة لقراءة أسباب هزيمة الإنسان في هذه الحياة كانت الصحراء حاضرة، وكان الفضاء مدينة بشار بأزقتها و أحيائها القديمة و واديها الذي جفّ، الآن تحاذيه واحة غنّاء عرفت بالتامهدي.
وحين تعلّق الأمر بالذاكرة في الحقبة الاستعمارية، وكتبت "الغار" لأحفر في جرح عميق متعلق باستغلال الاحتلال الفرنسي لأبناء القنادسة، لاستخراج الفحم الحجري، الصحراء كانت حاضرة بحيواناتها وأعشابها وأسرارها.
وظلّ وجع الذاكرة يسكنني في روايتي "كنزة" التي تفضح جرائم الاحتلال الفرنسي بتلك التجارب الكيميائية في منطقة وادي الناموس التابعة لولاية بشار، كانت الصحراء حاضرة بطبيعتها و أسرار ساكنيها في التأقلم مع قساوتها، وفي صناعة الجمال فيما جادت به ليشكل تراثا أصيلا لمدينتي بني ونيف والقنادسة .ولأنّ لرجل الصحراء حكاية مع العطش يظلّ من يلبس الصحراء همّا فكريا وملحمة نصية في بحث دائم عن ماء الحكاية لتبدأ المغامرة من جديد.