لطالما كانت الكتابة وسيلة فعالة للتواصل العميق مع الذات، وجسرا متينا لتمرير مشاعر الفرح والحزن في هذه الحياة، فبالقلم تحلق أجنحة الحلم عاليا لترسم أمانينا في سماء النجاح والتتويجات، ومن خلاله أيضا تصرُخ أرواحنا وهي ترفض النزول إلى القاع خوفا من الهزائم والإنكسارات، ..به تنصهر الأشياء والأفعال والأقوال، وعبره تتراقص الأفكار وترتسم الضحكات والآهات.
وإذا عُدنا سنوات إلى الوراء واقتحمنا أسوار الحروب في قديم الزمان، لتجلّت أمامنا قوة القلم وجبروته، وهو يقهر الأعداء منتصرا للقضايا العادلة والضعفاء، ولا يزال إلى اليوم سيد المعارك بكل ما أوتي من حنكة وشموخ، ليُدون عبر صفحات التاريخ مراحل لا تنسى ومحطات بطولية لن تمحى، فالبقلم تحدى أدباء فلسطين ومثقفوها الكيان الصهيوني الغاشم، وعبر صرختهم المدوية على الورق اكتشف العالم كله خبث العدو ومطامعه وجرائمه التي لا تُغتفر، ..فمن منا لم تدمع عيناه وهو يشاهد محمود درويش يبكي بدل الدمع دما، يرافع من أجل قضية بلده الذي أنهكته مطامع المحتل، يصرخ بأعلى صوته : )حاصر حصارك لا مفر، سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك بي لا مفر، وسقطت قربك، فالتقطني واضرب عدوك بي، فأنت الآن حُرٌّ وحُرٌّ ..وحُرٌّ (. ومن منا لم يتأثر بالقصيدة الرائعة لسميح القاسم "منتصب القامة أمشي" التي غناها الفنان القدير مارسيل خليفة، ومن لم تلهمه أيضا نصوص الكاتب الفلسطيني غسان الكنفاني صاحب الصرخة الثائرة الذي تحدى العتمة الخرساء بقوله:"سأظل أُناضل لاسترجاع الوطن لأنّه حقي، وماضيّ ومستقبلي الوحيد؛ لأنّ لي فيه شجرة وغيمة، وظل وشمس تتوقد، وغيوم تمطر الخصب، وجذور تستعصي على القلع". وماذا عن أم الشعر الفلسطيني "فدوى طوقان" التي كرّست قلمها وصوتها للذود عن بلدها وشعبها الأبيّ، وهي التي قالت: "حريتي صوتٌ أردده بملء فم الغضب،تحت الرصاص وفي اللهب، وأظل رغم القيد أعدو خلفها، وأظل رغم الليل أقفو خطوها، وأظل محمولاً على مدّ الغضب، وأنا أناضل داعياً حريتي!". ..وغيرهم من المثقفين الفلسطينيين وشهداء الكلمة الذين حملوا القلم بأرواحهم المكبلة وكتبوا على الورق مأساة أرضهم المغتصبة، فألقوا قصائد تئن من الوجع، ودوّنوا نصوصا تنزف من شدة الألم، تنتحبُ على أنقاض الأنين، فلا الرصاص أوقف حبرَهم ولا التهديد أسكت صوتهم..إنها قوة القلم وما أدراك ما القلم !!.