في أحد أزقة وهران العتيقة، تحديدا وسط وهران بالقرب من المكتبة البلدية المرحوم بختي بن عودة حيث الجدران الموشومة بألوان الزمن و نسمة هواء وهران ، يعود "عمي لخضر" إلى ورشته بعد غياب طويل، وكأنه يستجيب لنداء عقارب الساعات التي توقفت في انتظاره.
عمي لخضر، الذي تجاوز الستين، ليس مجرد مصلّح ساعات، بل حافظ لذكريات عديدة . في ورشته الصغيرة، تلتقي ساعات الجيب النحاسية من ثلاثينيات القرن الماضي، مع ساعات اليد الكلاسيكية التي أهدتها أمهات لأبنائهن عند النجاح أو الزواج. كل قطعة تحمل حكاية، وكل صوت "تك… تك…" يروي زمنًا مضى.
يقول عمي لخضر بابتسامة خجولة وهو يمسح الغبار عن ساعة حائط قديمة الصنع:
"تعلمت المهنة وأنا في سنة 10 سنوات من صديق العائلة الذي كان يمتهن مهنة الساعاتي ، ومن وقتها وأنا أعيش بين عقارب الساعات وتروسها. صحيح أنني ابتعدت سنوات، لكن حبّي لهذه الحرفة لم يمت . الجديد نحبه، لكن القديم… ما نفرطش فيه"، مرددًا المثل الشعبي الذي صار شعار حياته.
في زمن تزايد الإقبال على الساعات الرقمية والهواتف الذكية، لكن الحنين لما هو أصيل ظل حاضرًا. بعض الزبائن احتفظوا بساعاتهم القديمة، يزورونه اليوم لإصلاحها، ليس لحاجتهم إليها بقدر حاجتهم إلى استرجاع شعور دافئ من الماضي.
الورشة ذات الجدران المكسوة بصور قديمة وأدراج خشبية مليئة بقطع معدنية صغيرة، تحولت إلى متحف حيّ. الزائر يجد نفسه بين حكايات ساعات جيب ، أو تجار عبروا المتوسط وهم يحتفظون بساعة كدليل على المواعيد.
رغم تغيّر الزمن وظهور الساعات الرقمية والذكية، إلا أن ورشة عمي لخضر ما زالت تستقبل زبائنها الأوفياء بانتظام. بعضهم يزورونه منذ أكثر عشر سنوات محتفظين بساعات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، معتبرين أن قيمتها الحقيقية ليست في ثمنها بل في قصتها.
يقول عمي لخضر وهو يبتسم بفخر: "هناك زبائن لا يأتون فقط لإصلاح ساعة، بل ليجلسوا قليلاً، يستعيدوا ذكرياتهم مع كل قطعة هنا. بالنسبة لهم، الساعة ليست أداة لمعرفة الوقت.
ومن بين زبائنه أيضًا هواة جمع الساعات الكلاسيكية والأنتيكة، الذين يبحثون عن ماركات شهيرة مثل رولكس، أوميغا، لونجين، القديمة. هؤلاء يعرفون جيدًا قيمة القطع النادرة، ويقدّرون الحرفية العالية التي تعكسها التفاصيل الدقيقة في تصميمها.
الورشة باتت مقصدًا لهواة هذه الماركات، سواء لترميم ساعاتهم الثمينة أو للمشورة حول اقتناء قطع أصلية. وكثيرًا ما يروي عمي لخضر حكايات عن ساعات مرت بين يديه، لا تزال تنبض بالحياة بعد لمسة فنية متقنة.
يبقى دقّ الساعات في ورشة عمي لخضر إيقاعًا ثابتًا، يربط بين زمنين… زمن مضى وزمن ما زال يُصنع بعقارب ذهبية وقلوب وفية
