إنها غزوة بدر الكبرى ، التي سجلها القرآن الكريم هكذا بهذا الإسم ، فقال عنها أنها :
(يوم الفرقان، ) هذا اليوم الذي جعله الله فاصلا بين الحق والباطل،
فهي المعركة الحاسمة في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث كانت من أبرز المعارك التي انتصر فيها المسلمون على أهل الشرك والكفر من عتاة مكة. وهي المعركة التي فتحت الطريق أمام المد الإسلامي واتساع رقعته ،
وتحقق بها بناء الدولة الإسلامية ، التي اصبحت فيما بعد مخيفة لأعتى الإمبراطوريتين الموجودتين في ذلك الزمان، إنهما إمبراطورية الفرس، وإمبراطورية الروم.
لقد وقعت غزوة بدر الكبرى يوم السابع عشر من شهر رمضان المعظم في السنة الثانية للهجرة الموافق 624 للميلاد.
ومن بين أسباب وقوع غزوة بدر ، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- والمسلمون بعد أن خرجوا مهاجرين إلى المدينة من أذى المشركين وكفار مكة، تركوا خلفهم أموالهم وديارهم. ولما ورد إلى مسامعهم أن قريشًا قد استقدمت قافلة محملة بالبضائع من الشام إلى مكة. ورئيس تلك القافلة القادمة من الشام أبو سفيان ابن حرب أحد أئمة المشركين في ذلك الوقت. شاور النبي أصحابه بأمرها فمال الرأي واستقر على مهاجمة القافلة كتعويض لهم عما تركوه بمكة.
ولقد رأيت ألا أطيل في تسجيل وقائعها ، وإنما أقف مع بعض الدروس المستفادة من هذه الغزوة من خلال هذه السطور ، عوضا عن التدقيق في سرد وقائعها التاريخية، التي لم تعد تخفى على الكثير منا .
إن هناك الكثير من الدروس والعبر المستفادة من هذه الغزوة، التي يمكننا الوقوف عليها من خلال النقاط التالية.
01▪ فأول درس نستفيده هو أن النصر في أي معركة من معارك الحياة لا يقاس بتوفر القوة المادية والأدوات الحربية، والعدد، والكثرة وفقط . ولكن الانتصار في المعارك العقائدية والإيمانية ، وحتى الحياتية ، يحتاج إلى حسن الإعداد، مع الإلتزام بالإيمان، والثبات والذكر، وطاعة الله ورسوله ،وعدم التنازع ، والصبر ، ودوام الدعاء والتضرع للله واهب النصر .
فكهذا نص القرآن الكريم عندما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ.} سورة الأنفال الآية 45 وأكثر من هذا كان حال سيد المرسلين حيث بالغ بالإجتهاد في كل مراحل الإعداد للمعركة .
لذلك فإن غزوة بدر الكبرى كانت من المعارك التي تحققت فيها تلك المقاييس التي سجلها القرآن الكريم فتوجت بالنصر الحاسم على الباطل الظالم.
02▪إن اليوم الذي يجتمع فيه الجمعان؛ الجمع المؤمن من جهة والجمع المشرك من جهة أخرى ، حتى وإن كانت فيه المعركة - من الناحية المادية - غير متوازنة، وغير متكافئة. لكن في حساب القدرة الإلهية، فإن مع وجود إيمان أهل الحق، واستعدادهم ،ورغبتهم في الانتصار ، تتلاشى الفوارق، ويهزم الحق الباطل.
وقد سجل القرآن الكريم ذكرا طيبا مباركا عن عظمة يوم بدر فقال: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).سورة الأنفال الآية 45
03▪ شاهدنا أيضا في غزوة بدر ، فوائد الدعاء ، فإن له رونقه، وله مفعوله الحاسم في قضاء الحوائج. ولاسيما عندما يتضرع متضرع مظلوم إلى ربه في جوف الليل، وهذا ما حدث في غزوة بدر، حين قضى النبي –صلى الله عليه وسلم- ليلة بدر يتضرع إلى ربه بالدعاء . لقد وصف عمر بن الخطاب حال رسول الله وهو يتضرع إلى ربه، فقال:(فاستقبَلَ نبيُّ اللهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ القبلةَ ثمَّ مدَّ يدَيهِ وجعلَ يَهتِفُ بربِّهِ: اللَّهمَّ أنجِز لي ما وعدتَني اللَّهمَّ إنَّكَ إن تُهلِك هذهِ العصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ لا تُعبدُ في الأرضِ ) فما زالَ يَهتِفُ بربِّهِ مادًّا يدَيهِ مُستقبِلَ القِبلةِ حتَّى سقطَ رداؤُهُ عن مَنكِبَيهِ فأتاهُ أبو بكرٍ فأخذَ رداءَهُ فألقاهُ علَى مَنكبَيهِ ثمَّ التزمَهُ مِن ورائِهِ وقالَ: يا نبيَّ اللهِ كفاكَ مناشدتَكَ ربَّكَ فإنَّهُ سَينجِزُ لَكَ ما وعدَكَ.
ولما كان الصَّحابة يقفون أمام النَّبي عليه الصلاة والسَّلام، أشفق على حالهم ، فدعاء لهم، فقال: (اللَّهمَّ إنَّهم حُفاةٌ فاحملْهم، اللَّهمَّ إنَّهم عُراةٌ فاكسُهم، اللَّهمَّ إنَّهم جياعٌ فأشبعهم).
فأنزلَ اللَّهُ تبارَك وتعالى قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أنِّي مُمِدُّكُمْ بِألْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} سورة الأنفال الآية 9 فأمدَّهُم اللَّهُ بالملائكةِ من عنده عونا لهم وتأييدا .
04▪ لابد في كل مواجهة حاسمة ، من الأخذ بالأسباب، واستيفاء القوة المناسبة والمتاحة.
قال الله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } سورة الأنفال الآية 60 . ثم أنه عند العجز تدركنا قدرة الله –عز وجل- وقد تجلى ذلك واضحًا يوم بدر، حين كان عدد المشركين وعدتهم تعدل ثلاثة أضعاف المسلمين، ولكن قدرة الله كانت مع عباده المؤمنين.
04▪من أبرز أسباب النصر اليقين في الله ، والإصرا على الزحف مع الثبات وعدم التراجع عند التقاء الفريقين ، وقد كان النبي –صلوات الله وسلامه عليه- متيقنا بربه حريصًا على تحقق النصر. ومن هنا كانت خطته محكمة، ولم يكن المسلمون أقل عزيمة من نبيهم، وإنما كانوا معه في إصراره على النصر حتى الرمق الأخير.
05▪إن من بين أبرز الدروس والعبر التي يمكن أن نستقيها من غزوة بدر عمل النبي –صلى الله عليه وسلم- بمبدأ؛ الشورى.
حيث أنه لم يرد أن يتخذ قرارات أحادية؛ بالرغم من تأييد الله له بالظفر والنصر . إلا أنه دعا كبار الصحابة، واستشارهم للوقوف على الخطة الملائمة، والإجراءات الضرورية المناسبة.
نزولا عند قوله تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } سورة آل عمران الآية 159
06▪دوام الإتصال بالله والإعتماد عليه وحده دون الإلتفات للقوة المادية، وذلك بعد بذل الجهد في أعدادها وتحصيلها من قبل ، فإنه عندما اشتد وطيس المعركة ، وتلاحم الجند، أدرك المؤمنون مدى تجهيزات المشركين الكبيرة لتلك المعركة. هنا أصابهم بعض الخوف من الهزيمة ، لكنهم مع ذلك ثبتوا ثقة بإيمانهم في ربهم واهب النصر. قال تعالى : {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } سورة الأنفال الآية 10
07▪إنّ تقوى الله إلى جانب وحدة صف المؤمنين وتآلفهم كان سببًا قويا وطريقًا بينا لتحقيق النصر. قال الله تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة آل عمران الآية 103
إن مما نتج عن غزوة بدر المباركة أن المسلمين أسروا في الغزوة سبعين أسيرًا من الكفار ، وفيهم نزل قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سورة الأنفال الآية 70 لذلك نقول لك أخي العزيز أختي الفاضلة في شهر رمضان، اشحنوا قلوبكم بطاقة الخير، عبئوه بمشاعر الرحمة والحب والسلام والتسامح والعفو املأوه بالنوايا الحسنة، امضوا وقتا طويلا في ذلك، قاوموا كل مشاكل الحياة بحزمة من النوايا الجميلة، فلا شيء يهزم الشر مثل الثقة بالله والنوايا الطيبة الخيرة ، دمتم في حفظ الله.