ساعة أن يجلس الواحد منا متأملا متدبرا، أمام ما سماه علماء الحديث بـ "جوامع الكلم"، إشارة إلى نوع خاص من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدرك أن هذا النوع من الأحاديث عبارة عن "سنن" اجتماعية أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تكون سارية جارية على الأسنة، لا تحتاج إلى كثير من الجهد لتبلِّغ محتواها إلى العامة من النّاس. وأنّها حينما تتمكّن من المتدبِّر لها، تنفتح على فضاء واسع من الحقائق النّفسية، والاجتماعية، والأمنية، التي سيجد المسلم في نفسه ضرورة تطبيقها، لأنّها عائدة عليه قبل غيره بالخير العميم.
وسيكون المجتمع هو الرّابح الأكبر، حينما يُلزم أهله العملَ والاتِّصافَ بها. ولنا أن نستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تحاسدوا، لا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا..)، فإذا هي وصية، غير أنّها تلامس عمق أسباب الفساد في المجتمع فتعرّيها تعرية فاضحة، وإنّنا حين ننظر إليها عن كثب، تكشفت عن حكمة بالغة. فهي تبدأ بالنّفسي الخبيء الذي يفسد العلاقة بين الأخويين من جهة، كما يُفسدها بين العبد وربه من جهة أخرى.
إنّه الحسد. ذلك الشعور الحاد، الغائر في أغوار النّفس، يجفّفها من كلّ آثار الحبّ والإيثار. ثم يأتي "النَّجَشُ" وفيه من المعاني ما يجعل الذي كان دفينا في الصّدور، يخرج إلى العلن، ويتحرّك نحو الفعل والأذيّة. ففي النّجش معنى "الاستثارة" وإشاعة الفزع والتوتّر، وفيه معنى المزايدة في المبايعة من غير حاجة إلى السّلعة، ليحرم منها غيره، أو ليسقطه في مزادها، وفيه معنى تأجيج النار وإشعالها. وهي كلّها معاني يتحرّك بها الدَّفينُ الغائرُ في النّفس إلى العلن ليؤذي النّاس. ثم يأتي "التباغض" لأنّه ناتج عن التّناجش، فهو ثمرته المباشرة، حينما يجد النّاس أنفسهم عرضة لمثل تلك الأعمال التي أشارت إليها المعاني من قبل. ثم يأتي "التّدابر" وهو أن يدير كلّ واحد ظهره لغيره.. والمعنى الكامن هنا.. أنّ التّدابر لا يسمح ولا يتيح فرص التّصالح والتّقارب. فما بدّده التّدابر وقطع سبلَ التّواصل فيه لا يجد من يجمعه ويعيد له لُحْمَتَه. فلم يعد يُجدي الكلام مع هذا الكمّ من التوتّر، والشّحناء، والبغضاء، والتحاسد. وكأن القطيعة التي يُحدثها التّدابر هي الخطوة الأخيرة لانهيار المجتمع في آتون الفوضى والخراب. ثم يأتي "البيع على البيع"، وفيه معنى المغالبة. لأنّ صاحب المال، والقوّة، والجاه، يصبح هو المسيطر المتسلط على كلّ شيء. ومعه تسقط القيم التي كان يقدمها المجتمع في أخلاقه ورتبه.. فلا شيء بعد المال ينفع، ولا شيء بعد الجاه يدفع، ولا شيء مع السّلطة يُستجار به. ثم يختم رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في صيغة الآمر: (وكونوا عباد الله إخوانا). وهو الشّرط الذي يحقّق به وفيه المسلم وجهين لحقيقته الوجودية، وضرورته الدينية: عبوديته لله، وأخوَّته للنّاس جميعا. فالعبودية تضمن له صلته بربه ليجازيه على اجتهاده ومجاهدته في كونه مسلما عاملا، والإخوانية تضمن له مجتمعا آمنا محبا متعايشا في حب، وتآلف، وتواصل، وإيثار...
