ربما تكون التكنولوجيا الحديثة والتصنيع الجديد الذي يعرفه الناس في حاضرهم، في تعاملهم مع الآلات التي غدت امتدادا لأيديهم وأجسادهم وعقولهم، فلا يجدون فكاكا منها لحاجتهم الماسة إليها، ربما يكون كل ذلك قد ألجأنا إلى استخدام اصطلاح نرى ضرورته حاضرة بين أيدينا ونحن نتعامل مع هذه الأدوات في حالة السلامة والعطب على حد سواء. إنه اصطلاح "الصّيانة" واصطلاح "الإصلاح" وكأننا حينما نتعهد هذه الأدوات بالصيانة نريد لها أن تستمر في عملها السليم، وأن تؤدي لنا وظيفتها كاملة من غير عطب أو تشويه. وحينما يلجئنا الضرر إلى عرضها على خبير نكون قد عزمنا على "إصلاحها" لأن أمر عطبها وفساد بعض أجزائها قد تخطانا إلى من هو أكثر منا خبرة وقدرة على ترميم ضررها بما يجدد سيرها، ويعيد لها طاقتها التي فقدتها لما طالها الإهمال، أو السير بها في غير ما أوجدت له أساسا.
من هنا كان شهر رمضان تلك المحطة التي يلجأ إليها الإنسان المسلم بعد تطواف واسع خلال الأشهر الأخرى، ضربا في الأرض وجريا وراء الرزق، وسعيا وراء الحاجات. يأوي إلى تلك المحطة وهو يشعر بتعب أجهزته، وفقدانها طاقتها التي كانت لها عند البدء. إنه يشعر أنها في حاجة ماسة إلى إصلاح، بعدما كان يعالجها هو بشيء من الصيانة التي تتاح له بين الفينة والأخرى. ثم يأتي رمضان، محطة مجهزة بكل وسائل الصيانة والإصلاح، فيه برنامج دقيق يجبر المسلم على الانخراط في نظامه طواعية، وفي نيته أن يجدد أدواته، وأن يعالج ما طرأ عليه من خلل في القلب والبدن، وأن يجدد القرب من الله عزّ وجل، صائما محتسبا مجتهدا.
وأولى المنصات التي يعرض عليها قلب المسلم في هذه الورشة الربانية، هي منصة صيانة القلوب وإصلاح أعطابها، وتجديد ما تلف من أجزائها. وهي منصة القرآن الكريم. إنها منصة تعالج القلب بأربعة أدوية تتوالى على القلب المتعب دفعة واحدة، تأخذه كل واحدة منها من جهة، حتى تشمله من كل النواحي، فإذا هو في يديها كما يكون الرضيع بين يدي والدته، تقلبه في رفق وحب وهي تتحنن إليه، لا ترى فيها إلا آية جمال وخير، وعفة وطهارة، فلا تتركه إلا وقد طهر وراق. قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِے اِ۬لصُّدُورِ وَهُديٗ وَرَحْمَةٞ لِّلْمُومِنِينَۖ (57)(يونس).
إن المراهم التي تعالج بها القلوب هنا هي:
أولا: مَّوْعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمْ.
ثانيا: شِفَآءٞ لِّمَا فِے اِ۬لصُّدُورِ.
ثالثا: هُديٗ.
رابعا: رَحْمَةٞ لِّلْمُومِنِينَ.
وإذا نحن تدبرنا مراحل العلاج والصيانة والإصلاح، ألفينا الورشة القرآنية تشتغل وفق نظام مدروس، في غاية الدقة والفاعلية والنجاعة. حينما يكون البدء بالموعظة، والموعظة ما قال عنهاابن سيده ( هي تذكيرك للإِنسان بما يُلَيِّن قلبَه من ثواب وعِقاب) وكأن الهدف وراءها هو تليين القلب الذي صلّبته الحياة طيلة السّنة في جريه وراء سرابها، يحتاج إلى تليين الوعظ ليكون قابلا للخطوة الثانية مطواعا لعلاجها. فيأتي الشّفاء لما في الصدور. وهنا عجيبة قرآنية فيها صدق العلاج وقوته، إذ لم يعد الحديث عن العلاج، وإنما تخطاه إلى الشفاء مباشرة، ليدرك المريض أنه في هذه الورشة لا يريد علاجا قد يستمر معه المرض أزمنة طويلة، وإنما يدخل معها مباشرة إلى الشفاء التام الكامل. غير أنه شفاء من نوع خاص. فهو لا يعالج البدن والأعضاء، وإنما يعالج ما في الصدور. لأن الأمراض البدنية كلها كما يقول الأطباء اليوم ناتجة عن توترات نفسية تدفع بالإنسان إلى أن يسرف في استعمال أجهزته البدنية إلى غاية إتلافها. فالورشة القرآنية تعالج أصل الداء ولا تنشغل بمعالجة الداء، لأن الله الذي الخلق يعلم من أين يحترق الإنسان الذي يجري في سبل الدنيا جري اللاهث الذي لا يجد راحة ولا اطمئنان. ثم تأتي مرحلة (الهدى) إنها مرحلة إعادة تعبئة البرامج القلبية والجسدية بأنظمة جديدة محيّنة كما نقول اليوم في لغة الحواسيب والذكاء الاصطناعي. الورشة توقف البرامج القديمة التالفة المشوشة التي عبثت بها فيروسات الوسوسة الشيطانية، وخرّبتها النميمة والغيبة والولوغ في أعراض الناس، والكذب والمراء... وغير ذلك من فيروسات الحياة الفتاكة. لتصب في القلب الذي شفي تماما برنامج الهدى الجديد، الذي يوافق حاجة صاحبه ليقطع به مرحلة جديدة من العمر في دورة آمنة من دورات السنة. برنامج يتمتع بحماية قوية ضد فيروسات الشيطنة، والوسوسة، والتجسس. ثم تأتي المرحلة الرابعة: مرحلة (الرحمة للمؤمنين) لأن برنامج (الهدى) سيجعل هذا القلب قلبا مؤمنا محبا للخير لنفسه ولعامة المسلمين. فهو في سعيه ومشاعره لا يحمل للناس حقدا ولا أذى، بل يحمل إليهم الحب والود والسلام.. إن العبد به قد صار رحمة للمؤمنين.
إنّها الورشة الأولى. منصة القرآن الكريم.
...(يتبع)