قد يلفت انتباهك ما يجري في العالم اليوم إلى آيات في القرآن الكريم، كنا نقرأها سريعا ونحن "نُكرّر" القرآن الكريم، أي نعيده صوتا لا فهما وتدبّرا، وكأنّ الهمّ من وراء التّكرير هو المحافظة على وجوده فينا "ظاهرة صوتية" على ألسنتنا وفي آذاننا" فقط. لكنّ اليوم والأحداث الجارية في غزّ.ة ترجُّنا رجّا، تُعيدنا إلى تلك الآيات التي مررنا بها في عَدْوِنا السّريع وراء إنهاء الحزب، وختم الخَتْمَة. ولم نسأل أنفسنا مرّة واحدة: لماذا أمر الله عزّ وجلّ نبيّه الكريم، قبل أن يخلع دِرعَه، ويَغمد سيفَه - ومن ورائه عامّة المسلمين في كلّ الأزمنة والأمكنة- بُعيد الانتهاء من غزوة بدر، أولى الغزوات، قائلا: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ٦٠) (الأنفال)
لقد كانت "غزوة بدر" أول معركة يلتحم فيها جيش الإسلام وجيش الكفر، وتُقَابل فيها القِلَّةُ المؤمنة الكثرةُ المشركة. لأنّ غزوة بدر كانت فارقة في التاريخ، لَهَا ما قبلها ولَهَا ما بعدها. فلم يَعُد العالم من حولها كما كان من قبل، بل صار عالما جديدا انفصل فيها الفريقان انفصالا واضحا داميا. فكان أول أمر يأتي في هذا الشّأن من الله عز وجل في سورة الأنفال، بعدما فصل في مسـألة الخلاف في تقسيم الغنائم، أن يأمُر الله عزّ وجلّ بالإعداد العسكري للقادم من الأيام، لأنّ ضراوة العدو ستزداد، وتتنوع جنسياته، وتتسع رقعته، ويبلغ مداه الآفاق. فكان لزاما للأمة الجديدة أن يكون لها حظ من الصّناعة الحربية والإبداع في منتوجاتها حتى تستطيع مواجهة ما يطرأ عليها في ميدان الحرب والسلم. وبين الله عزّ وجلّ لهم أنّ المواجهة ستكون بالعتاد (الرّباط) وأنّ مهمته (إرهابُ) عدو الله أولا، وعدوهم ثانيا، ثم آخرون يعملون في الخفاء، داخل صفوف المسلمين: من خونة ومتخاذلين وجواسيس ومنافقين. هؤلاء لا يرفعون رؤوسهم جهارا إلاّ حينما تضعُفُ الأمّة فيتغطرسون ويعربدون، ولا يخبؤونها إلاّ حينما يكون لها التّمكين والسّطوة فيرهبون. وأنّ هذا الإعداد يحتاج إلى ميزانية تُصرف عليه على مدار السّنة.
لكن الأمة لم تقرأ الآية ولم تستفد منها، من كون أول ملك فيهم ( سيدنا داود) كان صانعا للدروع الحديدية، وللأقمصة الفولاذية الواقية، وأن الثاني (سيدنا سليمان) كان يملك جيشا جرارا من خلائق متعدّدة.
لم يلتفت الخلفاء من بني أمية، ولا من بني العباس، ولا من تلاهم من الملوك والأمراء بشأن التّسليح، وبناء مصانع الصّهر والسّباكة، والتّنقيب عن المعادن، ولا قرّب من مجلسه ورعايته المشتغلين بالكيمياء والهندسة، ولا أجزل العطاء للمخترعين والعلماء.. كان كلُّ هَمِّهم واهتمامهم مصروفا إلى الشّعراء ومن لفّ لفّهم: من أهل الطّرب والفُرجة والقوادة. وبِسببِ إهمال هذا الأمر، وتعطيلِ هذه الآية، ذَبَحَنا المغول، وأتلف مكتباتنا، وتوالت علينا الحملات الصّليبية لتُرينا كيف يتَدرّع الفارس بالحديد، ويتجلّل الفرسُ بالحديد، وكيف تحولت أقواسهم إلى قاذفات نبالٍ من حديد. ثم غشَّانا الاستعمار الحديث شرقا وغربا، يرينا من بأسه، وضراوة عتاده، وتقدم صناعاته ما حولنا في سنوات قلائل إلى شعوبٍ مُقعدةٍ مقهورة مُستعبدة مُسخّرة، لا تزال إلى اليوم لا تعرفُ كيف تُفعِّل في ضميرها، أو في قلبها وعقلها، هذه الآية في حاضرها وهي تنعم بما تزعم أنّه استقلال.
لم نجد في تاريخ الخلفاء، ولا الملوك، ولا الأمراء، من حفر منجما للحديد أو غيره، ولا بنى مَصْهَرا لتذويبه، ولا أقام معملا لسّباكته. فكلُّ سيوفنا جاءت من الهند، والسِّندِ، والصّين، حتى سميناها بتلك الأسماء. بل لا نزال نقول في أشعارنا (المُهَنَّد) افتخارا كاذبا به. فكيف لأمّة اليوم، وهي ترى حاضرها يُهدم بالرّاجمات، والقنابل الزّلزالية، وتُهَدّد بالرّؤوس النّووية، والغازات، أن تستطيب العيش، وتستلذ المقام، وهي لا تزال تقرأ في صلواتها (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم) ؟.