حقيقة التّعوُّذ من الشّيطان الرجيم.

حقيقة التّعوُّذ من الشّيطان الرجيم.
رمضانيات
كتبه حبيب مونسي (فَإِذَا قَرَأْتَ اَ۬لْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ اَ۬لشَّيْطَٰنِ الرَّجِيمِۖ)(98) ( إِنَّهُۥ لَيْسَ لَهُۥ سُلْطَٰنٌ عَلَي اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَيٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَۖ) (99) (إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَي اَ۬لذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَالذِينَ هُم بِهِۦ مُشْرِكُونَ) ۖ (100) (النحل) جرى على ألسنة عامة المسلمين أنّهم إذا همّوا بقراءة القرآن الكريم وتلاوته، البدء بالتعوّذ من الشّيطان الرّجيم، وكأنّهم يقرّرون في أنفسهم ابتداء أنّ هناك قوّة (غيبية) تحاول الحُؤول بينهم وبين كتاب الله عزّ وجل، وأنّها ستفعل بما في وسعها من خبث، ووسوسة، ودهاء، أن تقف بينهم وبين تذوق القرآن الكريم، وتدبّره، وتمثّل معانيه، وإدراك مقاصد حطابه، وأنّها في كلّ لحظة من لحظات التّلاوة ستعمل على صرف القلب والذهن، عن الذكر الحكيم. أو أنّها ستبثُّ في القلب شكوكا وريبة، أو أنّها ستجعل هوى القارئ مُهيمنا على التّلاوة، تدفع من خلاله القارئ إلى أفكار، وأقاويل يُخرج بها آيات القرآن الكريم عن مقاصها. فكان الظنّ أن ترديد هذه العبارة (أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم) كافٍ نُطقا لصرف الشّيطان الرّجيم عن مهمّته التي جنّد لها نفسه وأجناده. بيد أنّ الأمر أوسع من ذلك وأغور عند من يريد أن يسأل لماذا نقول تلك العبارة؟ ولماذا نجد الله سبحانه وتعالى يحثُّنا - في سورة النّحل- على التزامها في كلّ إقبال على كتابه الكريم قائلا: (فَإِذَا قَرَأْتَ اَ۬لْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ اَ۬لشَّيْطَٰنِ اِ۬لرَّجِيمِۖ)(98)، ذلك أنّ التعوّذ بالله عز وجل، معناه اللُّجوء إلى الله، والاحتماء به. فقد عرفت العرب في لغتها أن العُوّذ هو ذلك النّبات الذي ينبت في أصل الأشجار الشّائكة الملتفّة، والذي لا تستطيع الدّواب الوصول إليه، فهو في مَنَعةٍ منها. وكأنّ الصّورة التي تريد اللّغة أن ترفعها إلينا من خلال هذه الكلمة، هي ذلك العشبُ الذي ينبتُ في أمنٍ من أن يصل إليه حيوان يقضمه، فهو نبات يانع أخضر. ثم قالت لغتهم مرة أخرى كما جاء في لسان العرب: ( والعُوَّذُ مِنَ اللَّحْمِ: مَا عَاذَ بِالْعَظْمِ وَلَزِمَهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: قُلْتُ لأَعرابي: مَا طَعْمُ الْخُبْزِ؟ قَالَ: أُدْمُه. قَالَ قُلْتُ: مَا أَطيب اللَّحْمِ؟ قَالَ: عُوَّذُه. (لسان العرب ج 03-ص 500) ،والصُّورة التي تقدمها اللّغة هذه المرّة، صورة العظم القوي الذي يلتفُّ حوله اللّحم فيكون ملتصقا به، بعيدا عن جلد الحيوان، فلا يأتيه ما يضر بسلامته من خارج البدن. وسواء كانت الحماية في شكل التفاف الأغصان حول العشب، واشتمالها عليه، أو التفاف اللّحم حول العظم وتمسّكه به، فإنّ معنى المنعة قائم في الكلمة ابتداء. ثم هو جار في الآية الكريمة التي سبقت. وقد أشار صاحب المنار إلى ذلك قائلا: (فَتَصَوَّرْ مِنْ مَعْنَى صِيغَةِ الِاسْتِعَاذَةِ أَنَّكَ تَلْجَأُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَعْتَصِمُ بِهِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الشَّاغِلَةِ عَنِ الصَّلَاةِ وَمَا يَجِبُ فِيهَا مِنَ التَّدَبُّرِ لِكِتَابِهِ وَالْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ تَعَالَى. (المنار ج1-ص 86.) هذا النوع من التعوّذ ينتزع من الشّيطان (سلطان) الهيمنة والاستحواذ على القارئ، فلا يدري من أي مدخل يدخل عليه، ولا من أي طريق يأتيه. وكأنّه حُرِم مثلما حُرِمت الدّابة من الوصول إلى العشب الأخضر اليانع النّابت تحت الشّوك الملتفّ، أو كما امتنع اللّحم المتّصل بالعظم الملامس له، من آفات يتعرض لها البدن بعد ذلك. إنّها صورة يشاهدها كلّ متأمل في أحول الطبيعة من حوله، ويتساءل عن أسرار بقائها على ذلك النّحو من البقاء والاستمرار. فيجد في معنى اللُّجوء والاحتماء هذا المعنى الذي تقدمه كلمة التعوّذ. ويخبرنا الله عز وجل بعد هذا اليقين الذي بثَّته الصّورة في أنفسنا، أنّ الشّيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكّلون. ويقدم بين أيدينا كلمة (سلطان) لنأخذ منها معاني التّسلط، والهيمنة، والاستحواذ، وامتلاك الأمر، وسلب الحرية، والإرغام، والقهر، والغلبة.. وما يمكن أن نسترسل في إدراجه تحت لفظ (سلطان). وهي أحوال يعيشها الإنسان الذي يبتعد عن الله، فيكون عرضة ل(شَيْطَنَة) الشّيطان، إذ من معانيها الأولى: البُعد، والإبْعَاد، والغور، والذهاب في كلّ اتجاه.. وقد سُمي الشّيطان شيطانا لأنّه يأتي هذه الأحوال كلّها أثناء غواية العباد. فيذهب بهم بعيدا في أفكارهم، وعواطفهم، ومشاعرهم، ومواقفهم.. بُعدا لا يجدون معه راحة بال، ولا طمأنينة قلب، ولا استقامة فكر. إنّها شيطنة لا تنتهي إلى ثبات أبدا، ولا ترسو على شاطئ آمن أبدا، ولا تنعم براحة. غير أن سلطانه يتحقّق في أولئك الذين لم يعرفوا أن يكونوا أذكى من ذلك النّبات الضّعيف الذي احتمى بالشّوك، فلم تعرف الدّابة الجائعة كيف تصل إليه، ولا أن يكونوا أحزم من ذلك اللّحم الذي اتخذ من العظم سندا ومتكأ. وفي هذا التّقرير الرّباني إشارة أخرى أشدُّ خطرا من الأولى. لأنّنا أمام خيارين اثنين: إمّا أن نكون مُتعوّذين بالله عز وجل أبدا الدّهر، وفي كلّ لحظات من العمر،حتى نبطل سلطان الشّيطان فينا وعلينا، وإمّا أن نكون واقعين تحت سلطانه. وفي هذا الحال نكون غصبا عنا من أوليائه مشركين به والعياذ بالله. إذ ليس هناك مسلكٌ ثالثٌ وسطٌ يتسع لموضع قدم أبدا.

يرجى كتابة : تعليقك