يتميز رمضان بالذكريات الكبيرة ذات الشأن العظيم في حياة أمتنا، لكن أهمها على الإطلاق ثلاثة أيام غيرت مجرى التاريخ بأتم معنى الكلمة و هي: ليلة القدر و غزوة بدر و فتح مكة، التي تمثل الأسس الكبرى التي قامت عليها الأمة الإسلامية و دولة الإسلام، و تشكل بترابطها قوام النهضة و الازدهار، و غيابها عن المشهد يعني التراجع و الضمور.
فليلة القدر كانت بداية نزول القرآن الكريم ،دستور الأمة الأول ، و مرجع هويتها الأساسي الذي يوجه حياة المسلم و ينظم علاقته بربه و بنفسه و بغيره ، و علاقته بالدنيا و بالآخرة.
و هي الليلة التي تم فيها تنصيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم خاتما للأنبياء و المرسلين، المكلف بالتبليغ عن رب العالمين ، قائد الأمة الأول و قدوتها إلى يوم الدين، الذي بلغنا القرآن و ترك لنا سنته شارحة ومكملة و مبينة.
و أول ما نزل من القرآن الكريم جعل العلم أول أمر نطق به الوحي و بالتالي بين أن العلم هو طريق التأسيس و عماد النهضة، انطلاقا من العلم بالله تعالى ، مرورا بالعلم بالإنسان وصولا لكل علم ينفع و يحقق التنمية و الكرامة بعيدا عن الجهل و المرض و الفقر، باعتماد أفضل طرق التعليم و ادواته المناسبة لكل عصر، و بالابتعاد عن الفوضى و التخبط الناتج عن الهوى و المزاجية.
وغزوة بدر كانت أول نصر عسكري يعطي للدولة الجديدة كيانا متكاملا مستعدا للدفاع عن نفسه ، بعدما كانت دعوة تبحث عن استقرار و تعاني التضييق و الاضطهاد ، فاضطر المسلمون لأن يهجروا مكة مرتين الأولى بالحبشة بحثا عن الأمان، و الثانية ليثرب التي صارت المدينة المنورة ، عاصمة الإسلام الأولى و دار الخلافة الراشدة لثلاث عهدات.
كانت البداية ببناء المسجد و المؤاخاة و تنظيم السوق و وضع وثيقة المدينة ( الدستور الذي ينظم العلاقة بين المسلمين و بينهم و بين غيرهم)؛ و انتهت بالمواجهة العسكرية الأولى مع كفار قريش لينتهي عهد الاحتقار و عدم الاعتبار ويبدأ عهد الندية و توازن القوى و حماية المصالح و بناء التحالفات.
و فتح مكة كانت تتويجا للرمزية و إبرازا لقابلية هذا الدين للانتصار و الانتشار، بعدما صارت مكة بيد المسلمين مع ما تمثله من قيمة روحية بين قبائل العرب ، ففيها بيت الله الحرام، و هي التي كانت مقرا للسيادة و الشرف و القيادة، فانتقلت هذه الأوصاف للمسلمين بهذا الفتح الذي هيأهم لقيادة العالم بعد ذلك ببضع عقود.
في فتح مكة ظهرت قوة المسلمين الحقيقية و هي بالإضافة للقدرات العسكرية، قوة الاستيعاب و العدل و الرحمة ، وقوة الانضباط و الالتزام و عدم التعدي او الاعتداء، و قوة التضحية من أجل الرسالة ,و قوة الأخوة الإسلامية التي تفوقت على أخوة الدم و شكلت عصبية جديدة تفوقت على عصبية القوم و القبيلة، تساوى فيها سادة مكة و أشرافها مع بسطاء المسلمين الذين مثلهم بلال بن رباح رضي الله عنه و هو يعتلى الكعبة و يرفع من فوقها الأذان بعدما تم تطهيرها من الأصنام و الأوثان التي شوهتها و شوهت عقيدة التوحيد التي بنيت من اجلها.
و ستبقى هذه العناصر سر القوة و معادلة النجاح للأمة اليوم و غدا ، كما كانت بالأمس.
أ عبد الكريم مشاي
مدير مركز الرائد - وهران