يقول ربنا في محكم التنزيل : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } سورة ق الآية 16
إنه يتوجب علينا ونحن نقرأ هذه الآية الكريمة أن نقف أولا، لنرفع أكف الحمد والشكر والتضرع لله، على عفوه ومغفرته ورحمته بنا، لأنه تعالى قال:{ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ }
ولم يقل ، نؤاخذ العبد على ما توسوس به نفسه ، فما أكثر ما توسوس لنا أنفسنا ،!!!
ولو يؤاخذنا الله على وسوسة أنفسنا لهلكنا جميعا .
فاللهم لك الحمد على عفوك ،وتجاوزك ، ومننك علينا كلها ، ولقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنّ الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل.)
ثم إنّ القرآن الكريم وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ينبؤنا عن قدرة الله المطلقة على الإنسان ،فيقول تعالى : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي : فهو خالقه ومصوره، وأن علْمه بعباده محيط بجميع أمورهم ، قال تعالى : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } سورة الملك الآية 14
فالله خلق العباد ، وخلق السر في قلوبهم، أفلا يكون عالما بما في قلوب العباد؟ .
الجواب : بلى ، حتى إنه تعالى ليعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر ، بل وأخفى من ذلك .
والوسوسة لها أصلان:
01 -- وسوسة الشيطان: وهي الأصل والمصدر الأول ، فإبليس لما رفض السجود لآدم ، ظلم بذلك نفسه بعصيان ربه ، وحيث أنّ المعصية تُحْدِثُ سوءً في نفس العاصي لربه ، فإنها أحدثت لدى إبليس حسدا وغيرة ، فتولدت لديه الوسوسة التي أصبح بها يسمى شيطانا ، لأنه إنما إنتقل من موطن الإضرار بنفسه ، فرفض أمر ربه بالسجود وهو إبليس، إلى إلحاق الضرر بغيره ، فسمي بذلك شيطانا، حيث قال تعالى : {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ} سورة طه الآية 120 . لم يقل الله تعالى: فوسوس إليه إبليس ، بل قال وسوس إليه الشيطان .
02--وسوسة النفس البشرية:
إنّ كل من يسعى إلى الإضرار بغيره
بأي شكل من الأشكال فقد تقمص وسوسة الشيطان ، فنشأت بداخله وسوسة النفس الإنسانية ، لذلك لا بد من أخذ الحيطة والحذر من الوسوسة ، برفض تسويل النفس لأنها قد تحيلها إلى نفس أمارة بالسوء، والعياذ بالله.
وقوله تبارك وتعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } فإنه أقرب إلى العبد من حبل الوريد، الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان، وهوالعرق المكتنف لثغرة النحر، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه، فالله مطلع على ضميره وباطنه، قريب منه في جميع أحواله، لذلك وجب عليه أن يستحي منه أن يراه ، حيث نهاه، أو يفقده، حيث أمره، وكذلك ينبغي له أن يجعل الملائكة الكرام الكاتبين منه على بال، فيجلهم ويوقرهم، ويحذر أن يفعل أو يقول ما يكتب عنه، مما لا يرضي رب العالمين.
وحري بالإنسان أن يلتزم بأمر الله فلا يفعل ولا يقول بل ولا يضمر ما لا يرضي الرحمن .
قال تعالى : {وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلْإِثْمِ وَبَاطِنَهُۥٓ}سورة الأنعام الآية 120
والآن أخي الفاضل ضع أصبع يدك على رقبتك فتحسّس حبلَ وريدك الذي بداخلها لتعجب من قرب ربك منك، ثم تأمل قوله:{ أَقْرَبُ إليه}
فإياك أن تضمر في قلبك شيئًا يحاسبك الله عليه، أما الوساوس التي تطرأ على القلب، ولا يقرها العبد ولا يميل إليها -بل يحاول دفعها- فلا تضره بل هي دليل إيمانه، وأعلم أنّ الشيطان إنما يلقي الوساوس على القلب السليم، فجاهده ، أما غير السليم، فالشيطان لا يوسوس له؛ لأنه قد تمكن من إغوائه.
فاللهم أعذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا آمين.
