استقبلنا بوجه بشوش وابتسامة عريضة، رحب بنا بحفاوة في منزله بحي الزيتون بوهران،لدرجة أننا شعرنا بالخجل لأننا تأخرنا عليه وهو الذي كان ينتظرنا منذ زمن، حتى يعانق عبق جريدته العريقة التي قضى فيها أجمل سنوات عمره، ويحضن من جديد ذكرياته التي ولدت من رحم مسيرته الإعلامية وكبرت وترعرعت بين جدران القسم الثقافي شغفه الأدبي وملاذه وعالمه الملتصق به وبكيانه كصحفي متمرس عايش أبرز المراحل التاريخية التي شهدتها " الجمهورية"، والمحطات الثقافية التي عرفتها مدينة وهران خلال فترة مزدهرة، ..عبد القادر ميموني القامة الإعلامية التي يشهد لها الجميع بالاحترافية والتفاني في العمل والإخلاص للثقافة، صحفي ارتبط اسمه بيومية " الجمهورية" وبالإعلام الثقافي بصفة خاصة، أفنى حياته في تعزيز المشهد الإبداعي بولاية وهران وخارجها أيضا، واجتهد رفقة طاقم مميز للإرتقاء بالصحافة بالثقافية وإعلاء رايتها نظرا لما تتميز به من قوة وتأثير عميق وأبعاد اجتماعية وسياسية هامة، فقاد سفينة القسم الثقافي بكل احترافية ومثل بلده في عدد من الدول العربية ورافق مختلف المهرجانات والتظاهرات الولائية والوطنية.
التحق عبد القادر ميموني بجريدة الجمهورية في 20 جويلية 1976، عندما كانت اليومية في بداية مرحلة التعريب، حيث تم تكليفه بتسيير قسم الأرشيف، ورغم هذا فإن ميموني الشغوف بالقلم والكتابة، لم يستطع الاكتفاء بهذه المهمة، والانزواء في ركن مظلم، فقرر أن يطلق العنان لملكته الإبداعية من خلال تحضيره لصفحة ثقافية أو فنية، دون أن يفكر في الحصول على أجر مقابل ذلك، لأنه بكل بساطة كان يحب عمله وجريدته، رغم أن البعض طلبوا منه أن يطالب بحق مادي لأنه يتعب في انجاز المادة الإعلامية، لكنه رفض وواصل ما كان يقوم به بكل فرح ومتعة، وهنا يقول عبد القادر ميموني " كانت أجواء العمل في تلك الفترة مميزة جدا، رغم المعاناة الظروف الصعبة التي كانت تعيشها "الجمهورية" والصحفيون أيضا بسبب التعريب، لكن سرعان ما وجد القسم الثقافي طريقه وعاد إلى سكته الصحيحة، بفضل أسماء جيدة مثل أمين الزاوي، واسيني الأعرج، أم سهام رحمها الله التي كانت تعشق الثقافة كثيرا، الراحل بلقاسم بن عبد الله، عمار بلحسن، وغيرهم من المبدعين الذين أسهموا بشكل كبير في إنعاش القسم الثقافي بالجريدة، وبطبيعة الحال لما حدث التعريب، تم ضبط الأقسام حسب التخصصات الإعلامية، القسم الرياضي والسياسي والثقافي، وبما أنني كنت مولعا بالثقافة والفن، فاتجهت مباشرة إلى هذا المجال الملهم بالنسبة لي، خصوصا أن وهران كانت مزدهرة ثقافيا ما جعلها منارة للشخصيات المثقفة والفنية المرموقة، وعليه كان لابد من تسليط الضوء على مختلف الأحداث والنشاطات وإجراء أكبر قدر من اللقاءات، والأهم أن " الجمهورية " كانت محبوبة جدا من ولها وزن كبير ومكانة رفيعة.
وبالعودة إلى فترة التعريب، يقول عبد القادر ميموني " لما تعربت الجمهورية مائة بالمائة سنة 1977، بعض الصحفيين الذين كانوا يكتبون باللغة الفرنسية غادروا نحو المؤسسات الإعلامية الأخرى، في حين بقي البعض منهم، وكانت الدولة الجزائرية تحاول مساعدة من بقي من الزملاء، من خلال تدريسهم اللغة العربية عبر تخصيص لهم ساعة في اليوم، ومن بين الذين بقوا، أذكر الصحفي بوزيان بن عاشور وآخرون، وأنا كنت من بين الكوكبة التي بقيت أيضا، وحاولت أن أحافظ على شخصيتي معهم، في البداية لم تلق الثقافة تشجيعا كبيرا مقارنة بالأقسام الأخرى، لكنها فرضت نفسها بفضل نخبة من الصحفيين والمثقفين الذين جعلوا منها أحد ركائز الجريدة، خصوصا بعد التعريب، والعربية ليست لغة عادية بل هي لغة قوية ومميزة وتعبر بشكل عميق عن مختلف القضايا، .. بعد التعريب التام تم تغيير رؤساء الأقسام، إلا أنا بقيت كرئيس للقسم الثقافي،وكنت أحرص على تقديم صفحات دسمة وثرية، وأحاول أن يكون فريق العمل حاضرا في جل التظاهرات، ورغم مسؤوليتي في تسيير القسم إلا أنني كنت أجد شغفا كبيرا في النزول إلى الميدان، حيث أجريت الكثير من اللقاءات الهامة،خاصة مع الفنانين والمثقفين العرب الذين كانوا يزورون وهران في تلك الفترة، على غرار الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي لا زلت أحتفظ بصورتي التذكارية معه، لقد كان في قمة التواضع، كان يحترم كثيرا "الجمهورية" لأنها بالنسبة له جريدة جزائرية وتعربت من الفرنسية إلى لغة الضاد، وهو ما كان يثير إعجابه ما جعله يعتبرها واجهة للثقافة العربية، ..
يضيف عبد القادر ميموني قائلا:"عندما أمر بمقر الجريدة، أتذكر كل اللحظات وما عشته فيها من أحداث ولحظات جميلة تقاسمتها مع الزملاء، لقد كنا عائلة واحدة،.. لحد الآم عندي حوالي 500 موضوع، وكلما أحن إلى " الجمهورية" أتأمل كل ما كتبته، خاصة اللقاءات التي أجربتها مع فنانين كبار، مثل أحمد وهبي وبلاوي الهواري اللذان كانا يحترمانني..الجمهورية كمدرسة ومؤسسة إعلامية عريقة قدمت الكثير للثقافة في مدينة وهران، كانت دائما سباقة لتغطية الأحداث والتظاهرات الثقافية والفنية والملتقيات والندوات الفكرية، فمثلا في ملتقى فكري يحضر عدد من الصحفيين وليس صحفي واحد، رئيس القسم و3 صحفيين مثلا، كل واحد منهم يحاول معالجة الندوة من زاوية مختلفة، وفي الغد تصدر الجرائد الأخرى بمقال مختصر أو عمود أو مجرد خبر، باستثناء "الجمهورية" الوحيدة التي كانت تعطي قيمة أكبر للحدث، وتخصص تقريبا صفحة كاملة للموضوع".
وفي الأخير، وجه الإعلامي القدير عبد القادر ميموني رسالة إلى صحفيي جريدة الجمهورية بمناسبة اليوم العالمي لعيد الصحافة المصادف لـ 3 ماي :" نجاح الجمهورية يجب أن يتواصل بالصحفيين الذين يؤمنون بالرسالة الإعلامية، والصحفي عندما يؤمن بها يستطيع أن يضحي بوقته، عليكم أن تحافظوا على هذه المدرسة الإعلامية، لأنها مسؤولية كبيرة، ولابد أن تبقى شعلة الثقافة أيضا متواصلة، وهي ليست مهمة سهلة أبدا، لأن الثقافة هي ركيزة الأمة، كما عليكم أن تتسموا بالصدق وبالمصداقية، أتمنى للجميع القوة كي يواصلوا العمل الإعلامي " .