في أزقة الجزائر العتيقة، تتوارث الأجيال قصصًا وحكايات تفيض بالحكمة والبيان، تنساب بين الشفاه كالماء الصافي، مُحملةً بعبق التاريخ ووهج الهوية. هذه الكنوز الثقافية، المغزولة بخيوط الماضي المجيد، تبقى حبيسة اللغة المحلية، تنتظر بزوغ فجر جديد يحملها على أجنحة الترجمة لتجوب آفاق العالم.إن نقل الموروث الثقافي الجزائري إلى لغات العالم الأخرى هو جسر نبيل، يتجاوز حدود الكلمات ليمد جسور الفهم والتقارب بين الشعوب. هو مشروع ثقافي حيوي يسعى إلى فتح نوافذ الحوار والتفاهم بين الشعوب من خلال الترجمة. هذا المشروع، الذي يتطلب جهودًا جماعية وتعاونًا بين المترجمين والباحثين والمؤسسات الثقافية، يهدف إلى نقل الروح الجزائرية عبر الحدود اللغوية، وإعادة جمع ما كُتب عن الجزائر بلغات أخرى إلى مكتبتنا الوطنية، حيث يمكن أن يجد مكانه الطبيعي ويصبح جزءًا من الذاكرة الثقافية الوطنية.
وفي قلب هذا المشروع الثقافي الطموح، تتربع الترجمة كوسيلة أساسية لنقل الروح الجزائرية إلى العالم أجمع، وترجمة الأدب الجزائري، بكل ما يحمله من رمزية وعراقة، تعد خطوة أولى في هذا الطريق الوعر، ومن خلال نقل روايات الطاهر وطار، وأشعار محمد ديب، وقصص آسيا جبار، ينفتح أمام القارئ الأجنبي نافذة تطل على روح الجزائر الباسلة، بعسلها وحنظلها، بآمالها وآلامها. في عملية، لا يقتصر الأمر فيها على مجرد نقل للكلمات فحسب، بل يتعدّاه إلى نقل الروح والثقافة، إلى إضفاء الحياة على النصوص في لغات أخرى، حيث تظل الروح الجزائرية نابضة بالحياة في كل كلمة وجملة.
وعلى الجانب الآخر، فإن استرجاع ما ألفته لغات العالم الأخرى عن الجزائر إلى مكتبتنا الوطنية يمثل رحلة بحث شاقة في دهاليز المكتبات العالمية: فما خطته الكتب وحوته المخطوطات من تاريخ للجزائر وجغرافيتها وثقافتها-المنسوج بأقلام أخرى-من الأجدر أن يعود إلى أحضان المكتبة الوطنية الجزائرية، حيث ملاذه الطبيعي وأن يصبح جزءًا من الهوية الثقافية الجزائرية، وجمع هذه الأعمال وترجمتها إلى العربية يعيد للجزائر جزءًا من هويتها التي كتبت بأقلام الآخرين، ويعزز الفهم العميق لتاريخ وثقافة البلاد.
الترجمة في هذا السياق ليست مجرد عملية لغوية تُنقل فيها الكلمات، إنما هي جسر يربط بين الثقافات، وسيلة لإحياء الموروث الثقافي وتفعيله في السياقات العالمية. هي السبيل الذي تنفتح به نوافذ الحوار بين الثقافات، ويُعزز به التفاهم والتسامح بين الشعوب، تجعل من الثقافة جسراً لا حاجزاً، تنقل الأفكار والمعاني من لغة إلى أخرى، من سياق ثقافي إلى آخر، حاملة معها رؤية جديدة وفهماً أعمق.
إن هذا المشروع الثقافي الضخم يتطلب جهودًا جماعية وتعاونًا حثيثا بين المترجمين والباحثين والمؤسسات الثقافية. فكل ترجمة هي بمثابة جسر يربط بين الشرق والغرب، بين الماضي والحاضر. إنها عملية إحياء للموروث الثقافي، ليس فقط من أجل الحفظ، بل من أجل التفاعل والإثراء المتبادل. بهذا، تتسع آفاق القارئ الجزائري ليطلع على كيف رآه الآخرون، وكيف كتبوا عنه، وبهذا تكتمل دائرة الفهم ويصبح التبادل الثقافي أكثر عمقًا وشمولًا.
وبالرغم من أن هذا المشروع يحمل في طياته تحديات شتى، إلا أنه يوفر أيضًا فرصًا هائلة. من بين التحديات التي تواجه الترجمة تُطرح صعوبة الحفاظ على الدقة الثقافية واللغوية، والتأكد من أن النص المترجم يعكس الروح الأصلية للنص. كما أن استرجاع الكتب والمخطوطات يتطلب جهودًا بحثية مضنية ومفاوضات مع المؤسسات الأجنبية. إلا أن هذه التحديات ومع صوبتها تبقى فرصًا للتعلم والنمو الثقافي، وسبلًا لبناء جسور جديدة من التفاهم والتعاون بين الجزائر وبقية العالم.
أما عن أهمية هذا المشروع، فإنها لا تقتصر على الجانب الثقافي فقط، بل لها أيضًا أبعادا اقتصادية. فلتعزيز الأدب والثقافة الجزائرية على الساحة العالمية ما من شأنه أن يسهم في جذب السياحة الثقافية والاستثمارات في قطاع الثقافة والفنون. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي هذا المشروع إلى تعزيز الصناعات الثقافية والإبداعية في الجزائر مما يدفع عجلة النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة.
وفي النهاية، تبقى الترجمة أداة لفتح نوافذ الحوار بين الثقافات، وتعزيز التفاهم والتسامح بين الشعوب. إن هذا المشروع الثقافي الطموح، بنقل الموروث الثقافي الجزائري إلى لغات العالم، واسترجاع ما ألفته لغات العالم عن الجزائر إلى مكتبتنا الوطنية، يمثل حلمًا بتوحيد العالم من خلال الكلمات، حلمًا بإيجاد قواسم مشتركة في تنوعنا الثقافي، حلمًا بجعل الثقافة جسرًا لا حاجزًا. وفي هذا السياق، تتجلى الترجمة كفن نبيل يحمل في طياته رسالة سلام ومحبة، رسالة تخلدها الأجيال وتتناقلها الأرواح على مرّ العصور.