عشرون عاما في ولاية البيض،كان بامكاني أن أعود إلى تفاصيل دخول هذه المدينة المسكونة بالسر، وإلى الوجوه التي صادفتها وربطتني بها علاقات صداقة و أخوة ، و إلى تلك الأشباح البائسة التي خذلتني، و إلى سحنات العجائز اللائي كن يخبئن قصصا وحكايات، و كن كلما التقيتهن يضعن أكفهن بحنو على رأسي ، وإلى عيون الراحلين من الثوار والمناضلين الذين كانوا يبكون مثل أطفال صغار وهم يتذكرون رفاقهم يسقطون في الكمائن و المواجهات .
كان بامكاني أن أكتب عن ذلك و أكثر، عن عشرين عاما قضيتها وأنا أصحو صباحا على جبل اكسال يرتفع في كبرياء مثل الأولمب الساحر، لكن سأترك القصة ليوم ما لأسردها كاملة بنبلها و خيبتها، بصدقها و خيانتها ، بكل تفاصليها عندما لن يكون هناك شبح يحاصرني يسمى : واجب التحفظ .
عشرون عاما التقيت فيها العشرات من المثقفين و الكتاب ، وأجريت حوارات مع روائيين و شعرا ءومسرحيين و أنتجت عديد البرامج الثقافية منذ تأسيس الإذاعة المحلية ( منابر الابداع ، لذه النص، المدارج، مقامات، أطراف الحديث، للحديث بقية ...) وغيرها من الفقرات والحصص الموسمية، وأدرت الكثير من الندوات و غطيت الملتقيات و اكتفيت في الأخير كما يكتفي سُلاك الحقيقة بالمحبة النقية.
عشرون عاما سمحت لي ان اتقرب أكثر من صناع تاريخ المنطقة ، سجلت المئات من الساعات مع جنود وضباط جيش تحرير، منها ما بث ومنها ما استحال علي أن أبثه لحساسيته المفرطة.
جلست إلى الرائد مولاي ابراهيم ، البلاندي ، نعيمي نعيمي ، نورالبشير ، البشير نوري ، سليمان برحمون ،زغيد الناصر ، الطيب بن هرقال ، حميدي بونوة ، حمادي بن عامر ، الطيب بوقفدة، اعمر حسيني ، الباجي ، جبار اعمر ، بلمهدي ، حلوز التاج ، بن صديق ، مباركي ، الشيخ بن الشيخ، عبدالقادر سحنون، قادري، مويسي سي الفضيل ، بخيتي،خليل، صعدلي، عباد، بلمخفي، ... الكثير من الأسماء التي نسيت بعضها، أغلبهم رحلوا عن عالمنا، لكن بقيت شهاداتهم تلخص فترة مفصلية من تاريخ المنطقة ، بحلوها ومرها .
عشرون عاما من الحب الذي كان يرافقني وديعا كل صباح في شوارع المدينة و في بيوتها ومحلاتها، سأعود إليها بالتفصيل يوما ما ان كان للعمر بقية .
