قدّور الوهراني..قلب كبير وبيت مفتوح

قدّور الوهراني..قلب كبير وبيت مفتوح
النادي الأدبي
وهران، العشق الذي طاف بي حلما ولم أُشف بعد من خيالاته، وهران "تلك المحبة"، مع استسماح الرّوائي لحبيب السايح في توظيف جملة عنوانه الشّهيرة. لوهران شاهق المرجاجو في امتداد السّماء، انحدار البحارة في فجريات طرية تراهن مثلهم على حب الموج والزبد الذي بات معانقا رمل "كاب فالكون". لوهران صراخ الباعة في "لاباستي"، ورائحة منتصف النهار في "مسمكات" عتيقة تفتح أبوابها في المرسى للقادمين من عشق السمك، والتهام ملوحته على أنغام عود وهبي وغيتار بلاوي. في مخطوط روايتي "أوراق الماء" والتي تدور معظم أحداثها في وهران، ورد فيها: " الجامعة كانت فصلا في أوراق الذّاكرة، تتداخل صورتها مع وهران تلك التي لا يَعرف من اسمها سوى أنّها باهية، لكنّه كان يتفاخر دوما بأنّ وهران اسم مركّب، وكم كان يصيب مستمعيه بالغرابة من ذلك، لكنّه يسهّل الأمر عليهم ويقول: انظروا وهران هي "واه" "راني"، والواهراني هو الذي يريد أن يقول للآخرين: ها أنذا، وسيدي المعقود المهاجي كان يقول: "شعبي لا يُحقر وضيفي لا يُقهر". كما لو أنّ سيدي المهاجي كان يرى صورتك ونبلك الخارق يا قدّور. في الثلاث سنوات الأخيرة تكثّفت زياراتنا لوهران لدواعي علاجية، وأثناء العودة بمحطة الباهية، بعض المرات يطول الانتظار، وخلال ذلك كنّا نهجع إلى ظل شجرة وارفة تشكل مع مثيلاتها حدود حديقة صغيرة على الرصيف المقابل للمحطة والذي يصله بها جسر حديدي. في أحد المساءات كما العادة تحت ظل ذات الشجرة، ارتمينا متهالكين بعد أن أخذ منّا التعب مأخذه، واستسلمنا لنسيم وهران البحري المتناثر كالرذاذ، وغطسنا نستعيد أحداث اليوم الذي أمضيناه، مستعيدا معهم صورة وهران الثمانينيات، وهران كما لم يروها، لا مس حلوقنا شيء من العطش، سرت أطلب قنينة ماء من الحانوت المجاور، لمّا عدت أخبروني أنّ أحدهم، اقترب منهم سائلا عنّي، ولما علم بما غبت لأجله، أخبرهم أنّه سيعود بعد قليل ليرافقنا إلى بيته حيث يدعونا إلى تناول القهوة والاستراحة من تعب السفر. فعلا ما هي إلا ثواني بعد رجوعي حتى وقف أمامي رجل قصير القامة نحيف البنية منفرج القسمات، تكسو وجهه بشاشة وفرح متقافز من شقوق روحه المرحة. عند اقترابه منّا، أدركت أنّه هو الذي منذ قليل كان يرش الماء، وأخرج كرسيه واجتمع إلى أصدقائه أمام بيته، كان كثير الحركة نشطا تشمله حيوية طاغية، وكان يحرس أطفالا صغارا يشاكسون وينتقلون هنا وهناك فيحاول منعهم من الابتعاد عن البيت، عرفت فيما بعد أنّهم حفدته. بعد القاء السلام طلب منّا القدوم رفقته مشيرا بيديه إلى بيته، معلنا أنّ أهله قد حضّروا القهوة، تأخّرت قليلا وابني، على اعتبار أنّ زوجتي وابنتي سوف تُستقبلان من قِبل نساء البيت، والعرف أنّ للبيوت حرمتها، لكن وجدته ملحّا علينا في عدم التخلّف في المشي، ممطرا إيانا بعبارات الترحيب، ولمّا لا حظ أحد أصدقائه تردّدنا في الإقبال، ذكّرنا بأنّه هذه هي حال "قدّور" مع كل عابر سبيل، لستم أول من يُستقبل من طرفه. تقدّمنا وفي نفسي شيء من الحرج والخجل، لكن سرعان ما انجلى ذلك بحفاوة الاستقبال. ما أن تخطّت أرجلنا عتبة الدار حتى بادرتنا زوجته الكريمة بوابل من الترحاب، واصطحبتنا إلى غرفة الاستقبال، والتمّ جمع عائلتين، يتعارفان لتوّهما. التحقت بنا ابنتيه المتزوّجة والصغرى، وانخرطنا في جو من الألفة وتبادل أطراف الحديث وكأنّنا نعرف بعضنا منذ زمن. أحضروا القهوة وطبق من الحلويات، والترحاب لم ينقطع، كان البيت كبيرا متّسعا بقدر شساعة قلب قدّور وعائلته، فالاتساع ليس بكبر المساحة ولكن بطراوة المشاعر وصدق الأحاسيس والنوايا. كانت ابنتهم الصغرى تجتاز امتحان بكالوريا الرياضة، ويبدو أنّ رجلها التوت Entorse، ولشدة الألم لم تستطع الارتكاز عليها، ولكن بقلوبهم الفرحة وأنفسهم المرحة تحوّل ألمها إلى أمل في التّحضير للامتحان المفصلي في حياة كل شاب، وفي غمرة الألم انخرطوا في مزاح جميل لمواساة الإبنة والشد من عزيمتها. لم تنقطع عبارات الترحاب والرّجاء في إمضاء الليلة معهم، أو حتى عدّة ليالي، مع الإلحاح في إخبارنا بأنّ البيت مفتوح لنا في أي وقت كان، تبادلنا أرقام الهواتف، أمدّنا سي قدّور بثلاثة أرقام، مصرّا على التواصل، وأهديته نسخة من روايتي "مراقص العودة". ما إن وصلنا إل بشار حتى رنّ الهاتف، إنّه هو سيد القلوب وفرح الاحتضان، قدور يسأل عن أحوالنا. كم كانت فرحتنا كبيرة بالتعرّف على هذا القلب الكبير الذي يمنح الأمل في الحياة بتجدّد، وبِنَفَس من الثقة والمحبة المفقودة. مرّ عام أو أكثر بقليل على هذا التعارف، ومنذ أسبوع رنّ الهاتف وإذا بقدور هو المتصل، والحق يقال أنّه هو الأول من بادر بالاتصال في المرّتين، وفي كل منهما يستمر مذكّرا بأنّ البيت مفتوح لنا في أي وقت. هذه هي وهران التي أحببتها وما زلت، وهران التي ورد في مخطوط روايتي "أوراق الماء"، أحبّ وهران كما أحببتها: "وهران خيالي الدّائم، ظلّي الذي يرتقي مقام الجسد، جسدي هناك، وظلّي يمشي على الأرض حين لا أكون بوهران، وهران ركن من خلوة سيدي الهواري".

يرجى كتابة : تعليقك