(اقرأ ) هي أول سورة نزلت بوحي من الله سبحانه وتعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فويح أمة إقرا إن لم تتفكر في عظمة ومكانة القراءة وما يدوّنه القلم، ولا جدال أن خيّر الكتب وأعظمها كتاب الله.
وقد قيل الكثير في حق الكتاب ومكانته، فهو خير سمير في كل زمان، وغذاء العقول وحادي الأرواح إلى عالم الماضي والحاضر وهي الأثر الخالد عبر العصور، وليس من وجه المبالغة أنه لولا الكتابة والكتب ما كان تاريخ ولا توثيق أزمنة مضت وحضارات سادت ثم بادت ..، فالكتب عصارة فكر عميق وروح، وخلاصة معارفٍ قادت البشرية نحو السموّ والرقيّ الإنساني، وهي دوحة المعارف وميدان المدارك وقد قيل:
" الكتب ليست أكوام من الورق الميت، إنها عقولٌ تعيش على الأرفف ".
نعم هي عقول تعيش على الأرفف، مضى أصحابها لكنها خلّدتهم، لتنهل من العقول وتتوسع بها مدارك الناس، وتنمو في ظلها العقول وترتقي النفوس ..، فلا ينمو العقل إلا بإدامة الفكر، ومطالعة كتب المفكرين، واليقظة لتجارب الحياة ..
ومن الإجحاف أن نجد من يقرأ دون عمق ودون أن يضيف لفكره فكرا أعمق، ومن الجهل بل قمة الجهل أن تكون القراءة لغاية أن يقال فلان قارئ، متشدقا بما قرأ من هنا وهناك، والتقط بعض المفردات ليتمشدق بها ..، في هذا يقول الفيلسوف والمفكر الإنجليزي فرانسيس بيكون : "
لا تقرأ لتعارض وتفنّد ..، ولا لتؤمن وتسلّم .. ولا لتجد ما تتحدث عنه .. بل لتــــزِنَ وتفكّــــــــــــــــر ... "
فالكتب أزمنة وعصور، وفكر في فضاءات المعارف والمدارك، وحياة لا تحدها الأعمار، وفينا من لا يكفيه إلا أن يعيش حيواتٍ سبقت أزمانه وحياته .. يقول الكاتب وعملاق الأدب الراحل عباس محمود العقّاد : " أحب الكتاب لا لأنني زاهد في الحياة .. ولكنّ حياة واحدة لا تكفيني " .أما الروائي الكبير نجيب محفوظ فيقول : " إن أكبر هزيمة في حياتي هي حرماني من متعة القراءة بعد ضعف نظري " .
وغالبا ما نجد الكثير من الكتّاب وعلى وجه الخصوص من جيل النشء الجديد أنه يختزل الأزمان ويقفز إلى مرحلة الكتابة دون أن يكتسب الخبرة اللازمة والخزين الهائل من المعرفة، ولم يلمّ بعد بأركان الكتابة ويطور مهاراته ويوسّع خزينه المعرفي واللغوي والبلاغي ..أن تكون كاتبا لابد من كمٍّ هائل من القراءة والمران الطويل، أن تملك قوة الفكر والتعبير وتوظيف خبراتك اللغوية التركيبية والفنية مُلمّا بالبلاغة والفصاحة غنيا بمَلَكة المحسنات والبديع .. ، ولكي تكون كاتبا أن تلتهم كل ما يقع بين يديك من كتب أو صحفٍ أو كتيّبات، عندها سيتمكن عقلك وما اكتسبته من فرز الغثّ من السمين .. يقول الكاتب والصحفي السعودي محمد الرطيان : ( دع الحياة تكتبك، واتركها لتقرأك بعناية، وبعد هذا اقرأها بشكل جيد، ثم اقرأها بشكل جيد، ثم اقرأها بشكل جيد، ثم أُكتب .)
أن تمضي في طريق القراءة، وتسخر ما تمتلكه من مصروفك لاقتناء كتاب ..لا يعني أنك أهدرت مالك أبدا، فبعض الكتب يمكن تقييم أثمانها، غير أن من الكتب ما لا يمكن تقييم أثمانها حين تمنحك الفكر الواسع العميق وتصل بك حيث الغاية الإنسانية والفكرية والمعرفية التي لا تقدّر بثمن .. كمثل المكان المرتفع الذي لا يصل إليه قصار الهمّة والعقول ..
اعمل على أن تحوي مكتبتك من أمهات الكتب وأندرها وما لا يقدّر ثمنها حتى وإن اقترت على نفسك في ملبسٍ أو مأكل، ولا ترخص من أجلها سهر الليالي وتركن إلى دفء فراش ووسادة .. وتنقّل بين رياض وفصول اللغة وعلوم الفقه والدين، والعلوم الإنسانية، والفلسفة والسياسة، وفي دوحة المفكرين، وأزمنة المؤرخين، وبين جنان الأدب والشعر والثقافة، ولا تقف حتى عند كتب الطب والرياضيات ..، واقرأ الكتاب من الغلاف إلى الغلاف وإن عافته نفسك، وتفكَّر .. تفكَّر بعمق عندها ستدرك كيف تفكِّـر وتَـزِن .. وبعدها ستكتــب ما يخلّـــدك به قلمــك ...من هذه الكتب النوادر نهلت ما ارتقيت به، وأفنيت من سنيّ عمري ..وهي النزر اليسير جدا مما أخفيت ....