تمحور موضوع الندوة العلمية الوطنية التي احتضنها مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية CRASC، بتنظيم مشترك مع جامعة وهران 2 محمد بن أحمد، حول قضية مركزية ذات راهنية سياسية وفكرية متزايدة، تمثلت فيصعود اليمين المتطرف في أوروبا وانعكاساته على الجزائر وذلك خلال أشغال ملتقى وطني انعقد اليوم بمشاركة ثلة من الأساتذة والباحثين من جامعات ومراكز بحث جزائرية.
نُوقشت الظاهرة من زوايا متعددة، انطلاقًا من فرضية أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا لم يعد محصورًا في الدوائر السياسية الغربية، بل بات له امتدادات جيوسياسية واقتصادية وثقافية تؤثر مباشرة على دول جنوب المتوسط، وعلى رأسها الجزائر.
وقد انطلقت الإشكالية من ملاحظة التقدم المتسارع لليمين المتطرف داخل مؤسسات القرار الأوروبي، سواء عبر نتائجه الانتخابية أو عبر وصوله إلى السلطة، وما يرافقه من إعادة تشكيل للخطاب السياسي نحو توجهات استبعادية، منغلقة، وقومية متشددة.
تناول الأستاذ الدكتور عبد القادر بوعرفة الأصول الفلسفية للحركات اليمينية المتطرفة، معتبرًا أن هذه التيارات تستمد مشروعيتها من مرجعيات فكرية ضاربة في عمق التراث الأوروبي المحافظ، تقوم على مفاهيم مثل "الهوية الثابتة"، "التفوق العرقي"، و"التقليد" كمصدر شرعية حضارية، وهو ما يُفسر بُعدها المعادي للحداثة الكونية ورفضها للتعددية الثقافية.
ومن جانبه، قدّم الدكتور أحمد رئيمة مقاربة تاريخية لمسار تشكل اليمين المتطرف الأوروبي، مؤكدًا أن ظهوره ليس رد فعل لحظي على الأزمات، بل نتيجة لتراكمات اجتماعية وإيديولوجية طويلة غذّتها التحولات الاقتصادية وتحديات العولمة وفقدان الشعوب للثقة في النخب الليبرالية.
في ذات السياق عالجت مداخلة الأستاذ الدكتور بوزيد الزهاري، العضو في الهيئات الأممية لحقوق الإنسان، الإطار القانوني الدولي المنظم للتصدي لخطاب الكراهية، وخصوصًا في ضوء قرارات اللجان التعاقدية الأممية التي فصلت في شكاوى فردية ضد دول أوروبية بسبب تهاونها مع الخطاب العنصري المنبعث من سياسيي اليمين المتطرف.
وقد عرض الزهاري تحليلًا نقديًا لتجارب لجنتي حقوق الإنسان والقضاء على التمييز العنصري في هذا السياق، مشددًا على ضرورة دعم الآليات الدولية وتعزيز الثقافة الحقوقية في مواجهة هذا الخطاب العابر للحدود.
استعرضت مداخلة الأستاذ إدريس عطية البنية الخطابية لليمين المتطرف، من منظور تحليل الخطاب السياسي، مركّزة على الكيفية التي يتم بها تشكيل الرأي العام الأوروبي من خلال سرديات مؤدلجة قائمة على "الخوف من الآخر"، و"تهديد الهوية"، و"صناعة العدو".
وأكد عطية أن هذه التيارات تستثمر في القضايا الأمنية والهوياتية لإنتاج حالة طوارئ رمزية تُبرر من خلالها سياسات الإقصاء والتشدد، مما يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس انغلاقية.
في قراءة جيوسياسية معمّقة، تناول الأستاذ الدكتور محمود شرقي تنامي التعاون بين اليمين المتطرف في أوروبا ونظيره في إسرائيل، انطلاقًا من خطاب مشترك قائم على "صراع الحضارات" ورفض الإسلام كـ"آخر مهدّد". واعتبر أن هذا التحالف له تداعيات خطيرة على الأمن الإقليمي، وعلى قيم الديمقراطية والتعايش، خصوصًا مع تصاعد التحريض الإعلامي والرقمي.
بهذا، شكلت ندوة وهران العلمية فضاءً للحوار والتحليل العلمي الرصين، ومثّلت خطوة بحثية باتجاه بلورة رؤية وطنية شاملة للتعامل مع تحدٍ معولم يتجاوز السياقات الأوروبية، ليطال الأمن والاستقرار والهوية في دول الجنوب المتوسطي، وفي مقدّمتها الجزائر.
