قدمت العراق شعبا و دولة دعما كبيرا للثورة الجزائرية حيث أفادنا المؤرخ العراقي الدكتور عباس العزاوي بعدة معلومات هامة حول هذا الدعم وهذا منذ انطلاق الشرارة الأولى لثورة الفاتح من نوفمبر 1954، فالعراق كان يقف موقفا جاداً قويا وفاعلاً مع أشقائه في الجزائر، وكان أول تبرع من العراق لثورة الجزائر في سنة 1959 بمبلغ مليون دينار عراقي و استمر العراق بدعم الثورة بمليون دينار عراقي سنويا حتى نالت الجزائر استقلالها عن فرنسا في جويلية 1962، وكان العراق يدعم الجزائر بالسلاح اضافة الى المال حيث كان الدينار يعادل ثلاثة دولارات .
في هذا الصدد يقول الدكتور العزاوي حول عيد الستينة للجزائر: أبارك للجزائرِ دولةً وقيادةً حكيمةً، وشعباً أبيَّاً مُلهِماً، ذكرى عيد استقلالها الأغرّ من براثن الاحتلال الفرنسي الغاشم، لأرضها الطهور المِعطاء، ونبارك لأنفسنا نحن العراقيون والعرب جميعاً، نصر أشقاءنا الشُّم في الجزائر الغالية. فالجزائر لها الحصَّة الأكبر في قلوب العراقيين، وتحظى بكلِّ الحُبِّ والاعتزاز، وتمثِّل عنواناً للفخر والمجد والعِزِّ لنا جميعاً، أبناء العراق والعروبة. ولقد قاوم الجزائريون المحتل الفرنسي الغاشم، في أسطورة من مواقف الاقدام والشجاعة والتضحية والبطولة، بذلوا الدماء الزكيَّة، ووهبوا الأرواح النقيَّة التقيَّة في سبيل تحرير الوطن العزيز، فأعطى الشعب من أجل الجزائر قرابين فداء تجاوز عددهم المليون ونصف المليون شهيد منذ انطلاقة المقاومة الجزائرية وثورة الشعب الجزائري المقدام في تشرين الثاني من عام 1954م، وحتى انتصار الجزائريين على المحتل الغاشم في العام 1962م، بعد أن تكلَّلت تضحيات أبناء الجزائر بالنصر المؤزَّر، ولم يخذلهم جلَّ ثناؤه، وهو القائل(وكانَ حَقَّاً علينا نصر المؤمنينَ).
بعد ثورة 14 تموز 1958 العراق تبعث مساعدات عسكرية للجزائر
حول دعم العراق للثورة الجزائرية يكشف الدكتور العزاوي:" يجب أن نقوم بالفصل بين الموقف الرسمي لدولة العراق في العهدين الملكي والجمهوري، والموقف الشعبي، والمتمثل بالقوى الوطنية والقومية والمنظمات الجماهيرية والشعبية المختلفة.فلم ينسَ الكثير ممن أرَّخوا للثورة الجزائرية، في تبيان الموقف العراقي الداعم لهذه الثورة المباركة، كحقيقة ثابتة لا يمكن القفز عليها، فقد وقفت الحكومات العراقية المتعاقبة مع الشعب الجزائري خلال العهدين الملكي والجمهوري، رغم التفاوت الكبير بين الموقفين، حيث أنَّ النظام الملكي في العراق آنذاك كان تحت الوصاية البريطانية، وتاليا فموقفه من ثورة الجزائر مرهون بموقف بريطانيا التي هي احدى دول الاستعمار الغربي للمنطقة وفرنسا أحد هذه الدول، لكن الحكومة العراقية نفسها وتحت ضغط الشعب العراقي الذي يُطالبها بموقف حقيقي وصلب من الاحتلال الفرنسي، اضطرَّت للاستجابة الخجولة لمطالب الشعب، رغم محدوديته، خاصة فيما يخص المساعدات المادية، وليس العسكرية أو التعبوية، فقد حاولت الحكومات في العهد الملكي ايجاد المبررات والحجج في التأخر عن تسديد التزاماتها من مبالغ المساعدات التي تعهدَّت بتقديمها للشعب الجزائري تحت بند المساعدات الانسانية.
واختلف الموقف الرسمي من ثورة الجزائر، بعد ثورة 14 تموز ( جويلية ) عام 1958 ، فقد كان الموقف العراقي الرسمي قويا واضحا، تمثَّل في المساعدات العسكرية، ومنها ارسال عدد من الأسلحة للثوَّار، وأجهزة الاتصال العسكري، والتي تتلاءم مع نوع المعارك والمواجهة مع قوات الاحتلال الفرنسي، والمعونة المادية والطبية والتي كانت تشمل، تقديم المعونة المالية، والمبالغ العينية، رغم امكانات الثورة المحدودة جداً آنذاك، إضافة إلى ارسال المواد الغذائية للأشقاء في الجزائر، وكذلك المواد الطبية . ونذكر هنا أنَّ التنسيق بين العسكريين العراقيين والجزائريين كان منظما وسرّيا،ً والنقل كان مباشرة عن طريق الطيران العراقي ، نزولاً في ليبيا بالتنسيق مع الجهات الليبية الرسمية.أمَّا دعم العراق للثورة الجزائرية خلال المنابر والمنظمات العربية والدولية، فقد دعم العراق القضية الجزائرية في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها العاشرة من ضمن أربع عشرة دولة طالبت بادراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الجمعية.وقد قررت الحكومة العراقية في بداية ثورة تموز (جويلية)عام 1958 ، وقف كل نشاط اقتصادي وتجاري للفرنسيين في العراق، بما فيها المشاريع الصناعية والعمرانية، من سدود وجسور ومنشآت أخرى، وهذ يعبّر خير تعبير عن وحدة النضال العربي، والآلام والآمال المشتركة بين الشعبين الشقيقين.
وكان العراق أول قطر عربي يعترف بالحكومة الجزائرية المؤقتة، كما كان في مقدمة الأقطار العربية التي عملت على تدويل القضية الجزائرية. لقد كان التأييد العراقي للجزائر، جديا وواقعيا وملتزما،ً وكانت له نتائج مهمة ومؤثرة لصالح مسار الثورة .
العراق ثاني قطر عربي يستقبل الطلبة الجزائريين في كلياته الحربية
وفي جانب العلاقات المباشرة بين قادة الثورة في العراق والحكومة المؤقتة في الجزائر،يضيف الدكتور العزاوي قائلا : " لقد زار وفد من هذه الحكومة العراق في العام1959 م، حيث استقبل استقبالاً رسميا وشعبيا حاشداً يقدر بمئة ألف من أبناء الشعب العراقي، تم خلال هذه الزيارة اقرار مساعدة مالية نقدية للخزينة الجزائرية بقيمة مليوني دينار عراقي سنويا. ومما نذكره هنا أنَّ العراق كان ثاني قطر عربي بعد مصر في استقبال الطلبة الجزائريين في كلياته الحربية .وبعد ذلك فقد أعلن العراق عن استعداده لإرسال آلاف المتطوعين للقتال مع أشقائهم في الجزائر، بعد أن أعلنت الثورة الجزائرية قبل المتطوعين من الأقطار العربية، حيث كان هؤلاء المتطوعون يسجلون أسماءهم في قوائم التطوع في جيش التحرير الوطني الجزائري، وكانت الصحف العراقية تنشر يوميا أسماء هؤلاء المتطوعين، وسط جو من الحماسة والفخر بالثورة الجزائرية. ومما يجدر أن نذكره هنا أنَّ صحيفة المجاهد، وهي لسان حال الثورة الجزائرية ، تتابع وتنشر مواقف العراق الرسمية والشعبية من الثورة ، وتنقل بكل أمانة كل ما يصدر عن الدولة والشعب في العراق الى الشعب الجزائري الشقيق .
اذاعة بغداد تخصّص برنامجا يوميا حول الثورة الجزائرية
ومن المواقف الرسمية للعراق في دعم ثورة الجزائر،يؤكد الدكتور العزاوي أنَّه كان هناك نشاط اعلامي مميَّز لصالح الثورة، فقد كانت اذاعة بغداد تخصّص برنامجا يوميا حول الثورة الجزائرية ، لتعبئة الشعب العراقي والعربي معنويا في الوقوف الى جانب أشقائهم في الجزائر، زاد عن ذلك قيام وزارة التربية والتعليم آنذاك بتخصيص عشر دقائق يوميا للتعريف بالثورة الجزائرية في الساعة الأولى من اليوم الدراسي، وفي كافة المدارس والمعاهد والكليات في العراق.
أما فيما يخص الموقف الشعبي فيقول الدكتور العراقي عباس العزّاوي: " منذ اللحظات الأولى لانطلاق الثورة الجزائرية، فقد وفَّق العراقيون وربطوا بين مقاومتهم الوطنية لطرد المحتل البريطاني، والانتفاض على السلطة الملكية التي تأتمر بأمر المستعمر، وبين النضال القومي من أجل تحرير فلسطين وتمكين الجزائر من استعادة استقلالها من المستعمر الفرنسي وقد احتلَّت القضية الجزائرية وثورتها عمق وصلب اهتمام العراقيين، فالشعب الذي قاوم ويقاوم الاحتلال والوصاية البريطانية على العراق من خلال السلطات الملكية، فإنَّ ذلك يأتي متوافقا مع واجبه القومي في الوقوف مع الشعب الجزائري. وتَمثَّل هذا الموقف من خلال القوى الوطنية والقومية التي مثَّلتها الأحزاب والمنظمات والنقابات والاتحادات المختلفة ، حيث وجدت في الثورة الجزائرية خير معبّر عن وجدانها وطموحها، في انتفاضاتها ضد السلطة الملكية، والوصاية الاستعمارية على العراق. وقد انعكست حالة الغليان والسخط الشعبي في الجزائر، وبعض الأقطار العربية، على الشارع العراق، بكل قواه الوطنية والقومية، والتي بادرت على تشكيل لجان شعبية وحزبية لمساندة الثورة الجزائرية، ومتابعة أحداثها وفعَّالياتها اليومية التي تصل أخبارها من الجزائر الشقيق. وقد تبنَّى الشعب العراقي اقامة التظاهرات والاحتجاجات التي استمرت طيلة سنوات الثورة الجزائرية، وكانت ذروة تلك الاحتجاجات الساخطة عندما اختطفت السلطات الفرنسية الاستعمارية الطائرة التي كانت تقلّ قادة الثورة الجزائرية عام 1956 م ، حيث حاولوا الضغط على الحكومة العراقية من أجل العمل على ضمان سلامة الثوَّار المختطفين. وكانت احتجاجات العراقيين ومظاهراتهم العارمة أيضا عندما جاءتهم أخبار اعتقال المجاهدة جميلة بوحيرد في عام1957 م، وتناقلت الأخبار التعذيب الذي لاقته المجاهدة الجزائرية مع عدد من المقاومين الأبطال في السجون الفرنسية، ومن ثم صدور قرار السلطات الفرنسية القاضي بإعدام جميلة بوحيرد، وعندما تَحدَّد "يوم الجزائر" في 30 آذار(مارس) عام1958 م، كان هذا مبعثا لتأجيج الاحتجاجات والتضامن مع الثورة الجزائرية، استثمرتها القوى الوطنية العراقية في اقامة الفعَّاليات الشعبية، وجمع التبرعات للجزائريين. ولم ينطفئ اشتعال الشارع العراقي، الذي وجد في المقاومة الباسلة رمزاً للعزَّة والشموخ لدى الجزائريين، مما أثار في نفوس العراقيين الغضب والسخط الكبيرين ضدّ الفرنسيين، حيث أجمعت القوى الوطنية العراقية على مطالبة الحكومة بتأميم حصة فرنسا في نفط العراق، وتخصيص نسبة أرباح هذه الحصة لصالح حكومة الجزائر المؤقتة. لقد كان الانسجام متكاملاً وقويا في الحراك الشعبي للعراقيين، من أجل التعبئة المعنوية والمادية والقتالية لصالح الشعب الجزائري.
أبرز شعراء العراق نظموا قصائد تُحاكي ثورة الجزائر
فيما يخص حضور الثورة الجزائرية في قصائد الشعراء يقول الدكتور العزاوي : "لم يقف دعم الشعب العراقي للثورة الجزائرية عند هذا الحدّ فقط، بل تعدَّاه الى الأدب من نثر وشعر وقصص ومن فنّ، وأدبيات كلها تعتز وتفتخر بشعب الجزائر وصبره وثباته وصموده ومقاومته الأسطورية، وكانت تُرسل الى ممثلي الثورة الجزائرية، ويتم عرضها في التظاهرات والاحتفالات الجماهيرية المُكرَّسة لنصرة الثورة الجزائرية. فكان الأدب العراقي يزدان بالمقالات والقصص والشعر التي تُحاكي الثورة الجزائرية، ونسجّل هنا أنَّ العراقيين كانوا من أكثر شعراء الأقطار العربية غزارة في نظمهم الشعر الذي يشيد بالثورة ، ويمجدها، حتَّى أنَّ سفير الجزائر في العراق في عهده الوطني، استطاع أن يوثق هذا الشعر، في مجلدَين سمَّاه"الثورة الجزائرية في الشعر العراقي"، ومن أبرز شعراء العراق الذين نظموا قصائداً تُحاكي الثورة هم :بدر شاكر السياب، عبدالوهاب البياتي ، نازك الملائكة ومحمد مهدي الجواهري وهم من شعراء العراق الكبار والمعروفين عربيا وعالميا. وتجاوزت عدد القصائد مئتين وخمسين قصيدة، وبمختلف بحور الشعر العربي، كلها كانت تصف: بطولات الثوَّار، ثورة الجزائر أمل للعروبة، قدوة حسنة لأبناء الأمة، معارك وجيش التحرير الوطني ومفاخره القتالية ، وغيرها كثير.هذا غيض من فيض المواقف الرسمية والشعبية للعراقيين تجاه ثورة أشقاءهم في الجزائر، ولم ينسَ الجزائريون دولة وشعبا هذه المواقف، فكان موقف الجزائر النبيل من العراقيين، في فترة الحصار الجائر الذي فرضته قوى الشرّ في العالم، حيث قدَّموا لأشقائهم الكثير في سبيل تخفيف معاناتهم وعذاباتهم في ظل هذا الحصار الظالم ، كما لموقف الجزائر الشقيق حكومة وشعبا من الغزو والاحتلال الأمريكي الغاشم، ما يسجله العراقيون في نفوسهم، ومحفور في ذاكرتهم".
مبروك عليكم الاحتفاء بيوم النصر المجيد يوم تحرير الجزائر من براثن الاستعمار، حفظكم الله و رعاكم شعباً وحكومة. الشكر الموصول للدكتور عباس ياسين العزاوي الذي بيّن في مقالته مدى تلاحم وترابط الشعبين الجزائري والعراقي، تمنياتي لكم دوام العز والعيش الرغيد