قال الله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} سورة الفتح الآيات من 1-3
إننا نعيش شهر الانتصارات شهر رمضان المبارك الشهر المليء بالمناسبات الطيبة التي يفتخر بها المسلمون على مر الأيام بالليل والنهار، فهو شهر الجهاد في سبيل الله، والشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، وهو شهر ليلة القدر المباركة.
ومن خلال مناسبة ذكرى فتح مكة والتي تسمَى أيضا الفتح الأعظم، هذا الفتح الذي جاء على إثر غزوة وقعت فى العشرين من رمضان فى العام الثامن من الهجرة النبوية ، الموافق 10 يناير 630م ، حيث تمكن المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلالها من فتحَ مدينة مكة وضمَها إلى الدولة الإسلامية.
وإننا نرى أنه من الضروري أولا أن نشير إلى مكانة مكة في الإسلام فنقول: إن مدينة مكة بها بيت الله، وهي حرام منذ خلق الله السماوات والأرض، لكن الله أحلها إلى رسوله يوم الفتح قال صلى الله عليه وسلم : (وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحدٍ بعدي، فلا ينفّر صيدُها، ولا يختلي شوكها، ولا تَحِلّ ساقطتها إلا لمنشد، ومن قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدي وإما أن يقتل) وقال عنها أيضا رسول الله : (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منك لما خَرجتُ.)
وعن الصلاة في مسجدها الحرام قال : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة ).
وهذه الغزوة وقعت بسبب انتهاك قريش لعقد الهدنةَ الذي تم بينها وبين المسلمين، وذلك حين أعانت حلفاءها من قبيلة بني بكرٍ بن عبد مناةٍ بن كنانة في الإغارة على قبيلة خزاعة الذين هم حلفاءُ المسلمين ، وقتلهم حتى في الحرم ، فنقضت بذلك عهدَها الذي أبرمته مع المسلمين على إثر صلح الحديبية.
وردّاً على شكوى خزاعة واستغاثتها ، قام الرسول بتجهيز الجيش للخروج إلى مكة فحضرت جموع كبيرة ،من قبائل جهينة وبني غفار ومزينة وأسد وقيس وبني سليم ، والأنصار ، والمهاجرين.
وقد دعى رسول الله قائلا: اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نباغتها في بلادها
ولكن حاطب بن أبي بلتعة ، كتب كتابا بعث به إلى قريشٍ مع امرأة، يخبرهم بما عزم عليه رسول الله، وأمرها أن تخفي الخطاب في ضفائر شعرها حتى لا يراها أحدٌ . فإذا الوحي ينزل على رسول الله عليه وسلم بما صنع حاطب، فبعث الرسول علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ليلحقا بالمرأة. وتم القبض عليها قبل أن تبلغ مكة، وعثرا على الرسالة في ضفائر شعرها.
فلما عاتبه النبي اعتذر أنه لم يفعل ذلك ارتداداً عن دينه، ولكنه خاف على أهله الذين يعيشون في مكة. وقال عمر: " يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق". فقال رسول الله:
(إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدراً فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. )
تحرَّك جيشُ المسلمين حتى وصل مكة فدخلها سلماً بدون قتال إلا جهة القائد المسلم خالد بن الوليد حيث حاول بعضُ رجال قريش بقيادة عكرمة بن ابي جهل التصديَ للمسلمين، فقاتلهم خالدٌ وقَتَلَ منهم اثني عشر رجلاً، وفرَّ الباقون منهم، ومن المسلمين تم قتل رجلين اثنين.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد دخل مكة من أعلاها وهو يقرأ قول الله عز وجل :
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} سورة الفتح الآيات من 1-3.
لمَّا نزل الرسولُ بمكة واطمأنَّ الناسُ، جاءَ الكعبة فطاف بها، وجعل يطعنُ الأصنام التي كانت حولها بقوس كان معه، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.} سورة الإسراء الآية 81
فلما أكمل طوافه دعا سادن الكعبة عثمان بن طلحة فأخذ منه المفتاح ، فدخل وأمر بالصور التي كانت فيها فمحيت، ثم دار في نواحيها وصلى داخلها، ثم خرج منها وأعاد المفتاح إلى عثمان بن طلحة وأمر أن يبقى في عائلته أبد الدهر. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} سورة النساء الآية 58.
وفي وقت الصلاة أمر الرسولُ بلال بن رباح أن يصعد فيؤذن من فوق الكعبة، فصعد بلالٌ وأذّن.
وبعد الصلاة تجمعت رجالات قريش منتظرين ما سيفعله بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتوجه إليهم وقال: (يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)، فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: (فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ }
سورة يوسف، الآية92 ، اذهبوا فأنتم الطلقاء،)
وكان من نتائج فتح مكة :
العفو العام على أهلها ، و من قبل تم العفو على حاطب بن أبي بلتعة .
إثر ذلك اعتنقُ كثيرٍ من أهل مكة دينَ الإسلام، ومنهم سيد قريش وكنانة أبو سفيان بن حرب وزوجتُه هند بنت عتبة، وكذلك عكرمة بن ابي جهل،وصفوان بن أمية، وابو قحافة والد أبي بكر الصديق، وغيرُهم كثير،
فهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً. قال تعالى : {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } سورة النصر الآيات من 1-3
والآن بعد هذه الكلمات المختصرة نقول :
إن أمتنا اليوم هي بحاجة إلى العودة إلى السيرة النبوية تستجلي منها معالم الفتح والنصر أكثر من أي وقت مضى ؛ لأن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم