لعل هذا المشهد القرآني هو المشهد الأخير، قبل أن يُسدل السّتار على مأساة الإنسان الذي ضلّ السّبيل، ولم يعرف كيف يستمع إلى نداءات الفطرة فيه، ولا إلى حجّة الرّسل الذين صادفهم في رحلته الطويلة من بدء الحياة إلى نهايتها. فقد رآها تنتهي في مشاهد كارثية، وهي تطوى طيّا عجيبا، تتزلزل فيه الأراضي، وتموج البحار وتطغى، ويسجّر عبابها اشتعالا، وتتهاوى الجبال وكأنّها العهن المنفوش. فتختفي المدن، وتتكسّر الطّرقات، وتتشقّق السماوات وهي تسقط كسفا، وتمتلئ أرجاؤها دخانا قاتما. لقد شاهد كلّ ذلك في لحظات سمع فيها النّفخة الأولى مُنذرة بالنّهاية العظمى، سمعها في أرجاء الكون نفخة عظيمة كموجة صدّ كلما اقتربت اشتدّت وطأتها، لا يستقبلها شيء إلاّ دكّته دكّا، ولا يقف أمامها عارض إلا ّسوّته أرضا. لقد أدرك حينها أن ما حُدِّثَ به من قبل في الرّسالات، وأخبار الأنبياء والرّسل كان حقّا، وأنّه مقبل على مواقف يشيب لها الولدان، وتضع فيها كلُّ ذات حمل حملها، وأنّ النّاس سيموجون في بعضهم بعضا، أجناسا وأعراقا، شعوبا وقبائلا، وهم سكارى من هول ما ينزل بهم من العذاب.
لقد سمع النّفخة الثّانية، وأحسّ بيدها الجبّارة تنتزعه من تراب الأرض انتزاعا وقد تناثرت فيه خلاياه من قبل رميما فغبارا، وأخرجته من رقدته الطويلة كفراشٍ مبثوثٍ، وجرادٍ منتشرٍ، لا يعرف وجهةً ولا سبيلاً. يرى هذه المرّة بأمّ عينية أنّ البشريّة كلّها قد حضرت على صعيد واحد، لم يتخلّف منها أحد. إنّهم هنا قديمهم وجديدهم، سيّدهم ومسوّدهم، صالحهم وطالحهم. إنّهم يساقون إلى الميزان وهم يحملون على أكتافهم أوزارهم التي جاؤوا بها من الدّنيا ظُلما، فتجسّدت على أكتافهم جبالا من النُّفايات، والأثقال، والمعاصي، والذّنوب. جبالا من الكبر، والغطرسة، والفسوق. فإذا رفع رأسه إلى الذي يليه وجدَه مثلَه يجرّ وراءه أحمالا لم تجد لها مُستقرّاً على ظهره أو كتفه، فيُطرق ويستمر في السّير وراء الدّاعي الذي يصله صوته ولا يراه. حتى ينتهي إلى موضع تتطاير في الكتب والسّجلات قبل أن تلتصق بأصحابها إمّا في يمينِ بعضهم، أو من وراء ظهورهم. ثم يُساق إلى جهنّم. وتوصد أبوابها دونه. لقد شاهد قبل أن تُغلق الأبواب أقواما آخرين يتسارعون إلى رجلٍ يتحلّقون حوله يطلبون منه أن يكون شفيعا لهم عند ربِّهم. فيحمل في صدره هذا المشهد، ليسأل نفسه: هل له من شفيع يُسارع إليه ويلوذ به؟. لقد كان له في الدُّنيا شخصيات كبيرة يعتدُّ بها، يرى فيها القوة، والسلطة، والمنعة، والقدرة. ها هم هناك يحملون أوزارهم على أكتافهم مثله، يجرون الخطو في مذلّة وهوان، وقد نالت منهم جهنّم نيلا واسعا. فيقتربُ منهم ليسألهم أن يحملوا عنه بعضا من العذاب مقابل ما كان يعطيهم من دينه، وقلبه، وعقله في الدنيا. فيقول:( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاٗ فَهَلَ اَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اِ۬للَّهِ مِن شَےْءٖۖ) وهو يعلم في قرارة نفسه أنّهم في الهوان والعذاب سواء. لا فاضل ولا مفضول. ويسمع منهم ردّهم، وهم يقولون: (لَوْ هَد۪يٰنَا اَ۬للَّهُ لَهَدَيْنَٰكُمْۖ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٖۖ (23)إنّها النهاية التي ليس بعدها شيء سوى خلود في النّار. بيد أن السّتار لم يُسدل بعدُ. أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافر: قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا. ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول" (ذكره الرازي).فينتفض الجمع مرّة أخرى، ويشتدُّون نحو الشّيطان. إنّه هناك هو وقبيله، يرسفون في الهوان، والمذلّة، والعذاب. غير أنّ فيه – وهو يشاهدهم مقبلين عليه- بقية (من صدق)، ليجعل حسرتهم أعظم مما هي عليه الآن. فيتجرعون من كلماته آلام خيبةٍ مُرّةٍ معجونةٍ بلهيب النّار. فيقول لهم حينما وصلوا إليه يلتمسون منه الشفاعة: ( وَقَالَاَ۬لشَّيْطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ اَ۬لَأمْرُ إِنَّ اَ۬للَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَ۬لْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِے عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ اِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِے فَلَا تَلُومُونِے وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم مَّآ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّے كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُۖ إِنَّ اَ۬لظَّٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٞۖ) .(24) (إبراهيم) . ثم يسدل السّتار على المشهد الأخير.
