مَلِكِ يَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ

مَلِكِ يَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ
رمضانيات
كنت قد ذكرت في ورقة سابقة أنّ: (الحمدُ لله) ليست كلمةً تُقال حينما نقرأ الفاتحة، وإنّما هي شعور يخرج من أعماق الصّدر إيقانا بأنّ وجود الله عزّ وجلّ مغنمٌ للإنسان، وأيّ مغنمٍ.) ذلك أنّ قائلها يكون قد انطلق من مسافات بعيدة قبل أن يصل إلى فاتحة الكتاب. فقد بدأ الرّحلة بالتّعوذ بالله عزّ وجلّ من الشّيطان الرّجيم، ثم ثنّى بالبسملة طالبا الاستعانة. وقد كان من قبل قد قلّب بصره في أطراف السّماوات والأرض، وفي آيات الله سبحانه وتعالى، طلبا لمعرفة الله عزّ وجلّ من خلال خلقه، وإبداعه، وتدبيره. حتى انتهى إلى هذه الكلمة التي ملأت صدره، وهو يصادفها في أول الفاتحة، تُخْرِجُ ما في قلبه من امتنان للواحد القهّار. إنّه يدرك السّاعة أنّ حضور الله في ملكه غنيمة بالنسبة إليه. إذ لن يشعر بضياعٍ، ولا ضلالٍ، ولا وحدةٍ، ولا غربةٍ، وإنّما يشعر بحضور يملأ قلبه أمانا وطمأنينة. وسيكون سيره في الحياة محاطا بما استجلبه معه من أسماء لله عزّ وجلّ، وصفاتٍ يترتّبُ عليها نظام الكون، وتستقيم معها سيرورة الحياة. حينما يصل القارئ المتدبّر إلى عتبة: (مَلِكِ يَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ)(3) تتكشّف أمامه مشاهد القيامة بكلّ تفاصيلها، وفظاعتها، وأهوالها. وقد حُشِدَ النّاس كلُّهم أجمعون على صعيد واحد. له أن يتخيّل السّاعة أنّه أمام مشهد جُمِعَ فيه الأولون والآخرون، وتزاحمت فيه الشّعوب والأجناس، واختلطت فيه اللّغات واللّهجات، وتهامس النّاس خشيةً، وخوفاً، وفرقاً، والتفتوا وهم ينفضُون عنهم ما علق بهم من تراب الأجداث، وما بقي من أسمال الأكفان، فغدوا عرايا لا يسترهم شيءٌ عن بعضهم بعض. إلاّ أنهم في وفقتهم تلك لايبالون لأنّ الخطبَ عظيم، والحدثُ جَلَلٌ. ثم يتحرّك الجَمْعُ وراء الدّاعي إلى مكان نُصِبَ فيه الميزان، ووضعتْ فيه الصُّحف، وخشعتْ فيه الأصوات، نُكِّسَتْ الرؤوس.مشاهد كان القرآن الكريم، والحديث الشّريف قد وصفها وصفا دقيقا، بيَّن هولها، وآلامها، وخوفها، ورجاءها. بيَّن ما فيها من ترقُّب وحذر، بيَّن ما فيها من صرخات الفوز والنّجاة، وما فيها من نكسات الخيبة والخسران بعد الاطلاع على ما اسودَّت به الصّحف. هنا وفي هذا الموقف بالذّات تأتي (مَلِكِ يَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ (3)) لتقول للمؤمن أنّ الذي يُشرف على هذا كلِّه هو الله عزّ وجلّ. وأنّه برحمته لم يوكل الأمر إلى مَلَكٍ من الملائكة المقرّبين. لأنّنا نعلم أنّه لو أوكل أمرَ الميزان والمحاسبة لملَكٍ من الملائكة لَهَلَكَ النّاس. لأنّهم مأمورون،وأنّهم لا يعصون الله ما أمرهم، وأنّهم سيجرون الحساب وفق قاعدة: (فَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراٗ يَرَهُۥۖ (8) وَمَنْ يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٖ شَرّاٗ يَرَهُۥۖ (9)) ولا يطمعُ طامعٌ، ولا يظنُّ ظانٌّ أنّه سينجو من هذا الميزان، ولا من تلك الزِّنَة أبدا. لكن الذي يتلو كتاب الله عزّ وجلّ، وهو يقف هنا على قوله تعالى في الفاتحة، أنّ الله (مَلِكِ يَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ (3) يشعر أنّ الله سبحانه في كشْفِهِ عن هذه المِلْكِية، يوحي إلى عباده أنّه هو المتصرِّف، وأنّه سيجري الحساب برحمته وليس بعدله. فقد أخبرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجلّ يُدخل المؤمنين الجنّة برحمته، وأنّه يعاتب بعض عباده قائلا: (أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ، فيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ.) إنّ آية (مَلِكِ يَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ (3) بُشرى للمؤمنين، تأتيهم مع الفاتحة، بعد أن أتَتْ قبلها (ربّ العالمين)، و(الرحمان والرحيم)، تمهِّد لها الطريق إلى قلب المسلم ورجائه. هاهي الآن تقول له اطمئن، فإن أمر الحساب بيد الله، أنّ الله ملك ذلك اليوم، وأنّه ينظر إلى عباده نظرة رحمة، لأنّهم صدَّقوا وآمنوا. أما غيرهم ممن عاندوا، فتتْمِمَةُ الحديث تقول: (وأَمَّا الكَافِرُ والمُنَافِقُونَ، فيَقولُ الأشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].) إنّها آية الفرحة التي تسكنُ قلب المؤمن، وتجعله ينظر في الفاتحة، وكأنّها فتح لأبواب الخير كلِّها، وأنّ الله ما جعلها على رأس كتابه إلاّ ليقول للنّاس من خلالها أنّه الملك. وأنّه إن كان قد خلق وأبدع، وسوى وهدى، وأنّه قد شمل مخلوقاته برحمته، إلا ّأنّه بعد ذلك كلِّه أنّه الملك المتصرف في ملكه كيف يشاء. ويترتب على هذا الإعلان الرّباني الكريم، ما بقي من آيات الفاتحة، لأنّها تستمد منه حقيقتها في سياق السّورة كلّها. وكأنّ هذه (العتبة) التي ترفعها (مَلِكِ يَوْمِ اِ۬لدِّينِۖ (3)) تمفصل الفاتحة إلى قسمين: قسم عرَّفَنا بحقيقة الحمد الذي يدفعه المؤمن من أعماق قلبه اعترافا بضرورة التّوحيد، والرّحمة. وقسم يتحرك من خلاله العبد المؤمن تجاه ربِّه، مدفوعا إليه بمعرفةِ أنّ الله هو الملك لذلك اليوم الكبير: يوم الدّين. ساعتها سيلتفت إلى نفسه، لينظر إلى حاله وهو في الدّنيا ماذا سيفعل؟ وكيف سيفعل؟ ليجسّد ذلك الحمد عملا يحيا به أيامه ولياليه. لقد حاول السّادة المفسرون من قبل البحث في أيهما أفضل. أأقرأ بـ (ملِكِ يوم الدّين) أم أقرأ بمَالِكِ يوم الدّين؟، وجاؤوا بفروق بين ملِكِ، ومالِكِ، تكشف للمتدبّر أنّ السّلف لم يتركوا كلمات القرآن الكريم تمرّ عليهم على النّحو الذي نفعله اليوم في تلاوتنا دون أن يفتشوا عن أيِّهما أفضل لهم في تلاوتهم طلبا للأجر والمنفعة كذلك. وها هو الرّازي بعد الطبري رحمهما الله وغيرهما يقول في تلك الفروق ما نستأنس به السّاعة على الرّغم من التزامنا برواية ورش رحمة الله عليه: (الْأَحْكَامُ الْمُفَرَّعَةُ عَلَى كَوْنِهِ مَالِكًا فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: قِرَاءَةُ الْمَالِكِ أَرْجَى مِنْ قِرَاءَةِ الْمَلِكِ، لِأَنَّ أَقْصَى مَا يُرْجَى مِنَ الْمَلِكِ الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ وَأَنْ يَنْجُوَ الْإِنْسَانُ مِنْهُ رَأْسًا بِرَأْسٍ، أَمَّا الْمَالِكُ فَالْعَبْدُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْكُسْوَةَ وَالطَّعَامَ وَالرَّحْمَةَ وَالتَّرْبِيَةَ فَكَأَنَّهُ تعالى يقول: أنا مالككم فعلي طعامكم وثيابكم وَثَوَابُكُمْ وَجَنَّتُكُمْ. الْحُكْمُ الثَّانِي: الْمَلِكُ وَإِنْ كَانَ أَغْنَى مِنَ الْمَالِكِ غَيْرَ أَنَّ الْمَلِكَ يَطْمَعُ فِيكَ وَالْمَالِكُ أَنْتَ تَطْمَعُ فِيهِ، وَلَيْسَتْ لَنَا طَاعَاتٌ وَلَا خَيْرَاتٌ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يَطْلُبَ مِنَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْوَاعَ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ، بَلْ يريد أن يُطلب مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّفْحَ وَالْمَغْفِرَةَ وَإِعْطَاءَ الْجَنَّةِ بِمُجَرَّدِ الْفَضْلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ الْكِسَائِيُّ: اقْرَأْ مَالِكِ/ يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ هِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْفَضْلِ الْكَثِيرِ وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ). وجاء في المحرر الوجيز ل"ابن عطية" رحمه الله، في تفضيل (ملِكِ) على (مالِك) قوله: (قال أبو بكر: والاختيار عندي «‌ملِك ‌يوم ‌الدّين» لأنّ «الملِك» و «المُلك» يجمعهما معنى واحد وهو الشدُّ والرّبط. كما قالوا ملكتُ العجين أي شدَدْتُه. إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنّما نزلت بالثّناء والمدح لله سبحانه، فالمعنى أنّه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا مُلك لغيره). أمّا صاحب المنار فيقول في تفضيل (ملِك يوم الدين):( وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَبْلَغَ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَذْكِيرُ الْمُكَلَّفِينَ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ رَجَاءَ أَنْ تَسْتَقِيمَ أَحْوَالُهُمْ، وَمَعْنَى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قَدْ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ " رَبِّ الْعَالَمِينَ " عَلَى أَنَّ مَجْمُوعَ الْقِرَاءَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ، وَلَكِنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ بِمَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ تُثِيرُ مِنَ الْخُشُوعِ مَا لَا تُثِيرُهُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى الَّتِي يُفَضِّلُهَا بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ حَرْفًا فِي النُّطْقِ.)

يرجى كتابة : تعليقك