نقل التراث الجزائري إلى لغات العالم واستِرداد ما أَلَّفه الآخر عن تراثنا

نقل التراث الجزائري إلى لغات العالم

النادي الأدبي
لا يختلف اثنان عن أهمية الترجمة في نقل الآداب والمعارف من لغة إلى أخرى؛ فلطالما كانت -أعني الترجمة- الرافد الحضاري للشعوب والأمم، ولطالما تنوعت أدوار المترجِم وتشعبت، فَلَم تقف عِند هذا الدور، ولَم تَكتَفِ به. ومن الأدوار السامية الأخرى للمترجِمِين نَقلُ الموروث الثقافي لشَعب أو حضارة إلى لغات العالَم الأخرى، أو استِرجاعُ ما ألَّفتْهُ لُغاتُ العالَم الأخرى عن شَعبٍ أو حضارةٍ ما. وفي حالِنا هذه: نقل الموروث الثقافي الجزائري إلى لغات العالم الأخرى، واسترجاع ما ألفته لغات العالم الأخرى عن الجزائر إلى مكتبتنا الوطنية. ومن مُنطَلَق عناية الجزائر الجديدة بالذاكرة الوطنية، وتوثيق التراث المادي واللامادي للبلاد، ومساعي كل مؤسسات الدولة ذات الصلة إلى هذه المهمة الوطنية النبيلة والسامية، نَجِدُ أنفُسَنا أمام واجبٍ وطني يَفرضُ علينا المساهمة وإحقاق الحق. كيف لا، والمترجِمُون حَمَلَةُ رسالة وحَفَظَةُ أمانة؟ إن من واجبنا الترويج لثقافتنا والتعريف بموروثنا، وفك العزلة عن أدبنا وفننا والفولكلور الجزائري بشتى الطَّرائق والأدوات الممكنة والمتاحة. على الأديب أن يقدمها في أدبه، من خلال الأجناس الأدبية المختلفة: روايةً وَقِصَّةً وَمَسرَحًا وَشِعرًا، وعلى الفنان تجسديها رَسمًا وَتَشكيلًا وَنَحتًا وَتَمثيلًا وَغِناءً، وعلى المُترجِمِ نَقلُ الأعمال الأدبية الإبداعية والعلمية التي ينتجها الجزائريون بالعربية والأمازيغية إلى لغات العالَم الأخرى، وعلى رأسها الإنكليزية والإسبانية والصينية والهندية والإيطالية والروسية والتركية والفرنسية وغيرها.. إن المُطَّلِع على الراهن الثقافي والعلمي والأدبي في العالَم يدرك أهمية تلاقح اللغات وتخالط الذهنيات، ومن رَكَنَ إلى العزلة والانعزال سَكَنَ وَكانَ آيِلًا للزوال..! إن في عمق الترجمة فلسفة الغيرية ومحاوَرة الآخَر وتقبل الاختلاف؛ بُغيَةَ الوصول إلى الائتلاف..! ولا بُدَّ -والحالُ هذه- أن نُقَدِّمَ للعالَم "جزائرَنا وجزائريتنا" بكل مقوماتها وأركانها، بكل مميزاتها واختلافاتها، ولا يَتَأَتَّى هذا إلا بتفعيل دور الترجمة وتثمين دور المترجِمِين. عن نَفسِي -وَبِصِفَتِي مُتَرجِمًا وناشِطًا في حقل الترجمة- فإنني لا أفَوِّتُ فرصةً للتعريف بموروثنا الثقافي ونقله إلى اللغة الإنكليزية، سواءٌ من خلال ترجمة الأعمال الأدبية المشحونة بثقافة الجزائر أو حتى تدقيقها لإخراجها في أبهى حُلَّة، أو من خلال نقل الكتب العلمية والمعاجم المتخصصة التي تَجمَعُ مادَّةً علمية رصينةً عن تاريخ الجزائر وثقافتها وحضارتها وعاداتها وتقاليدها وكُل ما يَمُتُّ بِصِلَةٍ لتراثها. ولَعَلَّ أهَمَّ عَمَلٍ قَدَّمتُهُ في هذا الصَّدَد هو تَرجَمَتِي إلى الإنكليزية لِـ «مُعجَم الثقافة الجزائرية» الذي أصدَرَهُ "المجلس الأعلى للغة العربية" في 2022 والذي سَتَرَى تَرجَمَتُه النُّورَ قريبًا. وفي هذا المُعجَم مئاتُ المقاطع المشحونة ثقافيا من عمق الواقع المعيش الجزائري، والتي لا يُمكِنُ لغير الجزائري أن يتصدى لترجمتها، بَل إنني اضطررت في أحايِينَ كثيرة إلى التنقل إلى مُدُنٍ وَقُرًى جزائرية بُغيَة اللقاء مع أهالِيها وسُكانِها؛ طَلَبًا لشَرحٍ أو توضيح، أو حتى تدقيق وتحقيق. كَمَا أنني أعكفُ الآن على ترجمة كِتابٍ قَيِّمٍ من الإنكليزية إلى العَرَبِيَّة، مِمَّا ألَّفَ الآخَرُ عن وطننا الحبيب، وأتحفظ عن ذِكر العنوان الآن، لكن فحواه يتلخص في توثيق دقيق للممارسات الطبية في الجزائر إبَّـانَ الاحتلال الفرنسي، حيث كان المجتمع البدائي يُداوِي وَيُطَبِّب بفَنٍّ غاب اليوم عَنَّا، وأبهَرَ الإنكليز آنذَاكَ. وفي هذه الترجمة استرجاعٌ لجزء من موروثنا واستردادٌ لتُراثِنا. ولَعلَّ هذه من الأدوار غير التقليدية للترجمة والمترجِم، عَسَى أن نخدم الوطن -عَمَلًا بوصية الشهداء الأبرار- وَلَو بِالنَّزرِ اليَسير، وإن نَجَحَ اللَّاحِق فَالفضلُ لِلسَّابِق. على أصعدة أخرَى، أنشُطُ أيضًا في التعريف باللهجة الجزائرية وفَك العزلة عنها عَرَبِيًّا على الأقل، مِن مُنطَلَق أن الأشقاء العَرَب لا يَفهَمُون عادةً -على حَدِّ زَعمِهِم- اللهجات المغاربية، وخاصة الجزائرية. وقد صَرَّحَ مُؤَخَّرًا الممثل اللبناني "بيير داغر" الذي حَلَّ ضَيفًا على الجزائر أنَّ "الإنتاج (الجزائري يقصد) جَيِّد، لكن لازم يصير فيه اختلاط مَعَنَا"، وفي هذا التصريح الكثير مِن الترجمة! وواجبُنا أن نُعَرِّفَ بلهجاتنا ولكناتنا ونفك العزلة عنها، وهذه مسؤولية كل جزائري حُر، كُلٌّ مِن منبره..! من منبري مَثَلًا، أسعَى إلى الترويج في الفيسبوك واليوتيوب لمقاطع مكتوبة أو مُصَوَّرَة من اللهجات واللكنات الجزائرية، وتقديم ترجمة لها بالفُصحَى أوَّلًا؛ حتى يفهمها الأشقاء العرب، ثُمَّ إلى الإنجليزية؛ لإعطائها بُعدًا عالَمِيًّا. مُؤَخَّرًا مَثَلًا، قَدَّمتُ في امتِحانِ التَّرجَمَة تَمرِينًا عَن نَقلِ مَقطَعٍ مِن مُسَلسَل "البَطحَة" بِاللَّهجَة العاصمية إلى لَهجَات الطَّلَبَة المختلفة، ثُمَّ إلى العَرَبِيَّة الفُصحَى، وهذا مُن صُلبِ التَّخَصُّص، حَيثُ نَصطَلِحُ على نَقلِ الخِطاب العاميّ إلى نَوعٍ آخَر من العامية أو إلى الفُصحَى بِـ "التَّرجَمَة أُحادِيَّة اللُّغَة" أو "التَّرجَمَة دَاخِل اللُّغَة الواحدة" حسب مصطلحات "جاكوبسون" أو "إعادة الصياغة" حسب "درايدن". وقَد نالَ التمرين استِحسانَ الأساتذة وَالطَّلَبَة على حَد السواء. وفي ما قَلَّ ودَلَّ، أقول: إن الترويج لموروثنا الثقافي ونقله إلى لغات العالَم الأخرى مهمة كل جزائري حُر، وأخُص بالذِّكر هنا الأدباء والعلماء والمفكرين والمترجِمِين. وبهذا نُسَهِّلُ على الآخَر فهم مرامينا ومقاصدنا. كما أن استرجاع ما ألَّفَهُ الآخَر عَنَّا فيه إثراءٌ لمكتبتنا الوطنية واعتزازٌ بذاكرتنا وتعزيزٌ لتراثنا.

يرجى كتابة : تعليقك