صديقي الكبير وداعًا، وداعا مثل إلى لقاء قادم، وداعًا أقل من دمعة عالقة بالقلب، وأخفُّ من ابتسامة تستقبلني بها على باب البيت...
ستكون هناك بخير، لست قلقًا عليك من هذه الناحية. الطيبون يذهبون إلى الجنة، وأطيب منك لم أعرف.. ستكون أفضل مما كنت عليه هنا، ستُفرش لك أعمالك الصالحة، ويا لها من أعمال.. وستشهد عليك أقلامك الناضحة بالفكر والسلم والمحبة.. وستلتقي هناك من يفهمك أكثر، ويستمع لصمتك المثقف أكثر مما فعلت أنا هنا...
بيني وبينك حكايات لا تنتهي، بعضها لم تقلها اللغة أبدا، لكنها مروية بسردية الصمت الحائر كلما سلّمت لسانك لهموم زمنك... تلك الساعات الطويلة التي جلسناها معا دون أن ينبسَّ أحدنا بكلمة، كانت تعبرّ أفضل منا عن وقائع زمننا الذي لم يكن كما أردناه...
هل تذكر يوم كتبت مرثيتك؟، كنت حينها لم تمت كما ينبغي لكن بعض الغرانيق نشروا الخبر على الواحدة صباحًا، وكانت ليلة حزينة كما أخبرتك.. كنت وعدتني أننا سنلتقي بعد العيد، وكالعادة أنت تنسى مواعيدك غير الرسمية ولذلك صدقت أنا الخبر وعاتبتك ولمتُك بدل أن أرثيك... يومها ضحكنا من المراثي التي تُكتب مثل قصائد العتاب في غير أوانها!..
كثيرا ما كنت تقول لي أن هذا الزمن هو على شكل رثاء مكتوب وموثّق من طرفنا... وإليك اليوم أعزو تشجيعك الدائم لي وإعجابك برواياتي التي ساهمتَ بقدر كبير في التعريف بها، وهي كما كنت تقول عنها أحسن مرثية لعصرنا...
منذ سنة ابتعدنا قليلًا عن بعض، انشغلت أنت بتعزير زمنك عن نقصانه غير المبرر، واخترت أنا الصمت بعد أن عشت صممه غير المبرر، لكن كلانا كانت عينه على الآخر، يسأل ويطمئن ويبعث سلامًا عزيزا للآخر. وكان عتابك عن صمتي يخدش حيادي لكنه الاختيار الوحيد الممكن في هذه الظروف...
دون شك ستشتاق الآداب العالمية لجدالنا الدائم حولها. وسيشعر الأدب الروسي مثل روايات أمريكا اللاتينية بحنين لقارئين شغوفين مثلنا. سأبقى على اهتمامي بتلك العوالم السردية الفائقة الجودة لتعويض بعض غيابك ...
لقد فقدتُ بفقدانك عضدا يساندني، ومثقفا يناقشني، ونديماً يؤانسني، وصديقًا يرافقني في سيرة القلق والسؤال... لكنني لا أرى أنك تستحق الرثاء ما دامت أفكارك تمشي بيننا، وكتاباتك تلقّح أفكارنا، وسيرتك تتبادلها الأقلام والشفاه.. أنت الحاضر دوما بيننا.. الصامت كعادتك، التائه في أفكارك، المبتسم حين يخونك الجواب...
ابتسم يا صديقي فلم يعد أحد بعدك يطرح السؤال الصحيح على زمنه...نم هانئًا فالدنيا بعدك ذاهبة كالعادة إلى مستقر لها.. وكلنا سنؤانسك يوما في جنة الخلد.