عبد العزيز بوباكير.. النابغة والإنسان

عبد العزيز بوباكير.. النابغة والإنسان
النادي الأدبي
هناك أشخاص يعبرون حياتك كغيمة صيف، لا هي إلى البرِ ولا هي إلى البحرِ، وهناك آخرون يسكنون الذَّاكرة إلى الأبد؛ كما لو أنهم من مكوِّناتها. الأستاذُ والإعْلامي والمُترجِمُ عبد العزِيز بوباكير، ابنُ قَريتِي تاكسانة، مِن هذِه الفئة التي تشرِّف أمنا الأرض، كما يفعل الكرز في عليائه. عرفتُه في ثانوية “الكندي” بجِيجل، لأننا درسنا معا، قبل أن يذهب إلى الاتحاد السوفييتي، وتحديدا إلى “سَان بِيترسْبورغ”، حيث درس الإعلام نهاية السبعينيات. أما أنا، فالتحقتُ – فيما بعد – بجامعةِ “السُّورْبون” بباريس، حيث درستُ السِّيميائِيّات. ثمَ التقينا – من جديد – في معهد الأدب بجامعة الجزائر مطلع الثمانينيات، حيث درّس الآداب الأجنبيّة بتفوّقٍ، في الوقت الذي بقي يُقدمُ محاضرات لطلبة الإعلام. وكنتُ عادة ما أحضُر بعض حصصه في الإخراجِ التلفزيونيِ. عشنا آنذاك متلازمين كالألف والباء، وكانت العاصمة بهية، ومورقة، والحياة ممكنة رغم بعض الموت. لقد قضينا حياة بوهيمية حقيقية نحسد عليها، كتلك التي عاشها "إرنست هيمنجواي" و"سْكوت فيتزجيرالد"، وكالثنائي سليمان جوادي ومحد بوليفة، أو كالممثلين عبد النور شلوش وعلي بورزاق. وكنّا نقرأ ونناقش كل ما نعثر عليه من آداب عالمية وعربية وجزائرية. في تلك الفترة كانت العاصمة جوهرة جعلتنا نلتقي بأسماء وازنة في الشعر والسرد والفكر والموسيقى والسينما: المخرج يوسف شاهين، الشاعر محمود درويش، مظفر النواب، الشيخ إمام، أحمد فؤاد نجم، يفجينييافتوشنكو، الموسيقار مارسيل خليفة، محمد بوليفة، مارسيل بوا، روني فوتيي، وطار، بوجدرة، عبد الرحمن جيلي محمد حسين الأعرجي، أبو العيد دودو، وآخرين من الذين جعلوا الحياة قابلة للعيش. بوباكير لم يكن يملك ذاكرة قوية لأنه ذاكرة برمته، من الخلية إلى النسغ، وقد كان ذلك مدهشا حقا. كان يعرف تفاصيل الرواية الروسية والأوروبية، الرواية الأمريكية، المؤلفين والفنانين والساسة والمفكرين والمترجمين والشخصيات والديانات، الأقوال والمآثر، الأماكن والأزمنة، كما لو أنه عاش كل العصور مجتمعة ، ربّما كان ذلك أحد العوامل التي جعلته استثناء مثيرا، وكائنا ذا قدرة عجيبة على السرد اعتمادا على الأسماء والأحداث والتواريخ والجزئيات، كما لو أنه عدة مدوّنات لا شأن لها تتسكع في شوارع المدن. أذكر أنه عاد من الاتحاد السوفييتي منكمشا، ضجرا من الأيديولوجيات، ومن الماركسية التي انحرفت عن مثاليتها، كما عايشها هناك. ذاك ما استنتجته من بعض العلامات، وظلّ قليل الحديث عن هذه التجربة التي وسمت مرحلة السبعينيات، لقد أصبح عبثيا، أو كائنا عديم التصنيف، بالنظر إلى إخفاقات الإنسان في الفلسفة والسياسة والفكر، وفي الحياة، كان يشعر باللاجدوى، لذلك مال إلى الرفض المستمرّ، إلى بناء عالم خاص به، لقد أصبح يعيش ما يشبه النسبية المطلقة، ونسي الزمن. كان يومه هو المستقبل، وظل قلقا، رغم هدوئه الاستثنائي الذي يشبه باقة من القطن في أرض الله. كانت بداياته الأولى كأستاذ عسيرة جدا، مرهقة، وليست ذات معنى. لقد كان بلا راتب شهري، وبلا سكن، وظل خلال عدة شهور متنقلا ما بين الفنادق الشعبية، إلى أن استقر بحسين داي، في غرفة صغيرة بشارع طرابلس، حيث وجد صعوبة في دفع الكراء، كما حصل لكثير منّا. لذلك اقتسمت معه راتبي الشهري. هكذا عشنا نجوب العاصمة كملعونين لا وجهة لهما.لكنه، رغم ذلك النكد، لم يتوقف عن القراءة كمتكأ وحيد، وكان يقدم محاضراته بإتقان نادر، وبإحالات مركبة، ومؤثثة معرفيا وفلسفيا، وكان شخصية جامعة، متواضعة، قريبة جدا من الجميع، ومن أوساط الشعراء والكتاب والمثقفين والأكاديميين، ببعض الحذر والتكتم. لقد كان نبيها في تعامله، وقليل الكلام، حتى عندما يلاحظ أخطاء وتعاسات المثقفين والمنظرين والأدعياء. مع الوقت انخرط في التأليف والترجمة من الروسية التي يتقنها جيدا، ومن الفرنسية أيضا، وكان دقيقا في منهجيته ومعلوماته، وفي هذا السرد الجميل الذي جعله يقترب من القصة والرواية، كعبقرية أدبية راقية استولى عليها الإعلام والتاريخ. نشر "بوباكير" عدة كتب، منها " الأنتليجنسيا المغاربية"، ترجمة لكتاب فلاديمير ماكسيمينكو، تداعيات (مقالات صحفية)، مذكرات الرئيس الشاذلي بن جديد، موريسكي في الجزائر (كتاب عن كارل ماركس)، الجزائر في الإستشراق الروسي، 19 جوان، تصحيح ثوري أم انقلاب؟، وغيرها من المؤلفات التي قدمت خدمات جليلة للقارئ، كما شهدت اهتماما وجدلا واسعين. إضافة إلى ذلك فقد عرف هذا الإعلامي والمترجم بعدة مقالات صحفية ومحاضرات متخصصة، كما تقلد مسؤوليات إعلامية، واشتغل في عدة صحف، منها الخبر الأسبوعي، وجريدة الأهرام المصرية التي نشر فيها مجموعة من الهالات، على شاكلة ما كان يفعله محمد حسين هيكل. نشر بوباكير سلسلة من المقالات على شبكة التواصل الاجتماعي، وهي بحق مراجع، ومادة علمية وجب الاستفادة منها في تأثيث العقل، وفي مراجعة بعض قراءاتنا السابقة التي بنت على الجانب الشفهي، دون التدقيق في مصادر المعلومة. هذا الرجل النير لا يمثل الثقافة فحسب، إنه هذه الأخلاق العالية، وهذا الإمحاء الجليل الذي جعله متصوفا، زاهدا في أمر الدنيا وسفاسفها، قريبا من الأرض والناسك في صورته المضيئة التي يمكن أن نحلم بها في السياقات العمياء. على الجزائر أن تفتخر لأنها أنجبت عبد العزيز بوباكير، نابغة وإنسانا.

يرجى كتابة : تعليقك