مرت منذ أيام الذكرى الـ 54 لاستعادة السيادة الوطنية على القاعدة البحرية مرسى الكبير بوهران ، وهي المناسبة التي ستبقى خالدة في سجل التضحيات الكبرى التي ما زال يقوم بها أبناء الجزائر البررة، حفاظا على رسالة الشهداء المقدسة، وتكريسا لمبدأ تحقيق السيادة الوطنية الكاملة على جميع تراب القطر الوطني حيث كان استرجاع القاعدة البحرية المرسى الكبير بوهران امتداد لانتصارات الثورة التحريرية. فبعد الاستقلال قام الجيش الوطني الشعبي باسترجاع السيادة على القاعدة كاملة، واعتبارا من تاريخ 2 فيفري 1968 أصبح هذا اليوم مخلَّدًا للجيش الوطني الشعبي وللقوات البحرية على وجه الخصوص، والتي أخذت على عاتقها رفع التحدي إلى يومنا هذا، بفضل إطاراتها النشيطة فاستغلّت القاعدة أحسن استغلال وأنشأت مؤسسات البناء والتصليح البحري وهي مفخرة ومكسب واعتزاز للوطن وللجيش الوطني الشعبي، تتكفل بالدعم التقني للأسطول البحري من تصليح وترميم وكذا بناء السفن الحربية وبالتالي تعتبر قاعدة المرسى الكبير قطبا صناعيا بامتياز وأضحت سدا منيعا ودرعا متينا من دروع قوتنا البحرية الساهرة على حماية المياه الإقليمية وسلامة التراب الوطني.
كانت قاعدة "مرسى الكبير" محور جدول أعمال إتفاقيات إيفيان سنة 1962، حيث كانت الإدارة الفرنسية تنوي بموجبها الإبقاء على القاعدة لمدة 15 سنة إضافية على الأقل قبل استعادتها من لدن الجزائر، لكنه بسبب تحول فرنسا في تلك الفترة إلى قوة نووية، تمكن الوفد الجزائري المفاوض بحنكته الدبلوماسية من إقناع السلطات الفرنسية باستحالة استغلالها مرسى الكبير كقاعدة حربية و رفضه المطلق التنازل عنها أو تأجيرها للقوات الأخرى، وبعد مفاوضات عسيرة ،وافق الفرنسيون على تكوين 50 ضابطا، وعلى التنازل على عتاد قيمته 15 مليار سنتيم بمليار سنتيم فقط. وفي مساء 31 يناير نظّم حفل نزلت خلاله ألوان العلم الفرنسي. وفي أول فيفري تم رسميا استعادة القاعدة. ليرفرف لأول مرة العلم الوطني ويعزف النشيد الوطني في القاعدة بعد 138 سنة من الاحتلال الفرنسي لقاعدة المرسى الكبير.
وانتهى بالجلاء الفرنسي التام عن القاعدة وقد أصبحت قاعدة مرسى الكبير ملكا للدولة الجزائرية، و أصبحت هذه القاعدة البحرية ، بعد رحيل آخر جندي فرنسي عنها في 31 يناير 1968، ففي يوم الجلاء وجه قائد القاعدة الجديدة فارنر دعوة للشاذلي بن جديد، ليسلّم له مفاتيح القاعدة. و أبحرت الباخرة مطلقة قذائف وداع في عرض البحر. وقام الشاذلي بن جديد رفقة الزعيم الراحل هواري بومدين وأعضاء من مجلس الثورة والحكومة وضباط من البحرية الوطنية بتفقد الوحدات البحرية الجزائرية التي دخلت الميناء ويتعلق الأمر بسفينتين، الأولى نسّافة Torpilleur والثانية لحفر السواحل Patrouilleur ،مع العلم أن الانسحاب كان مبكرا بـ 10 سنوات قبل الآجال المتفق عليها، بل كان الاتفاق قابل للتجديد للبقاء في القاعدة، ولم تُجبر فرنسا على الانسحاب بالقوة كما أجبرت على الخروج من الجزائر، كما انسحبت فرنسا أيضا من القاعدة الجوية العسكرية في "بوسفر" بوهران سنة 1970، لتنهي بذلك حقبة سوداء سيطرت فيها فرنسا على العديد من القواعد العسكرية والثروات الباطنية للجزائر، لتعود مجددا للسيادة الوطنية بعد تضحيات جسام ستبقى خالدة إلى أبد الآبدين .
فاسترجاع القاعدة البحرية "مرسى الكبير"، يعد مكسبا وطنيا كبيرا، نظرا للأهمية الاستراتيجية التي تكتسيها هذه القاعدة التي مكنت البحرية الوطنية من امتلاك وسيلة للقيادة والدعـم التقني – العملياتي والردع في المنطقة، والتفكير في أفاق تنظيم وإنشاء ورشات للصناعة البحرية والعمل على نشر أهم قواتها لمواجهة أي خطر محتمل .
كم كانت فرحة و فخر الجماهير عظيمين في ذلك اليوم المشهود الذي يبقى راسخا في ذاكرة الشعب الجزائري، وهي تشهد إنزال العلم الفرنسي الذي حلت محله الراية الجزائرية شاهقة خفاقة فوق صرح استكملت به مسيرة نضال شعب في سبيل تحقيق السيادة الوطنية والوحدة الترابية، بفضل الخيار السياسي الذي تبناه الشعب الجزائري، المتمثل في إصراره على التحرر من قيود و أغلال الاستعمار الذي بدأ من جلاميد بلدة أخرى هي سيدي فرج و تحقيق سيادته الوطنية و وحدته الترابية.
مرسى الكبير ... محطات عبر التاريخ
يعتبر مرسى الكبير أكبر قاعدة بحرية في البحر المتوسط و الوطن العربي و أقوى القواعد البحرية في العالم و ذلك نظرا لشساعتها و لتصميمها الفريد من نوعه علاوة على موقعها الجد استراتيجي المشرف على مضيق جبل طارق.
وعلى مقربة وهران، يتراءى للعيان صرح مرسى الكبير متربعا بهيبته و جبروته و هو يطل بجرأة على البحر المتوسط، محتميا بحصون الطبيعة و متحديا آلاف السنين الغابر، قد بني جزء منه في باطن الجبل .واستمدت تسمية مرسى الكبير من اللغة العربية، وهي تحمل في طياتها النزعة البحرية للدولة الجزائرية. فلقد استوعبت الأمم البحرية منذ القدم الأهمية التي يكتسيها هذا الصرح سواء تعلق الأمر بالموقع الذي يحتله بالنظر للشواطئ الأيبيرية، مضيق جبل طارق و سواحل جبال الريف بمليلية والتي أضفت عليه طابعا استراتيجيا يسمح له بمراقبة تدفق الملاحة البحرية بين مضيق جبل طارق و قناة السويس، أو بميزة الملجأ الطبيعي التي يتمتع بها بفضل تموقعه بين مرتفعات سانتا كروز من الشرق و سانتون من الغرب و التي تسمح له بوقاية السفن من الرياح العاتية الآتية من الشمال و الشمال الغربي .
وكان مرسى الكبير، مرفأ رومانيا تلجأ إليه السفن و البوارج القتالية لتحتمي من الاعتداءات الآتية من الغرب. فبالرغم من تعرضه للتدمير فيما مضى، تمكن بفضل العناية الإلهية من الانبعاث مجددا على أنقاض أطلاله. وبلغت التجارة البحرية بين الجزائر و شبه جزيرة أيبيريا خلال العهد الإسلامي أوجها، حيث وجد البحارة في ميناء مرسى الكبير ضالتهم، فأضحى المناص و المحطة الرئيسية لعبور و توقف سفنهم التجارية. وطوّر الخليفة عبد المؤمن بن علي، مؤسّس دولة الموحدين خلال سنة 1162، مرسى الكبير إلى ميناء عسكري، و الذي أضحى ترسانة للصناعة البحرية ناهيك عن مهمته التجارية.
ساهم سقوط دولة الموحدين سنة 1269 و ظهور دويلات ثلاث هي: المرينية بفاس، بني عبد الواد بتلمسان و الحفصيين بتونس إلى حد بعيد في إضعاف مسلمي الأندلس و نشوب معارك تجارية ضارية بين المسلمين و المسيحيين للسيطرة على موانئ البحر المتوسط . ومكّن سقوط غرناطة سنة 1492 واستعادة المسيحيين لكامل بلاد الأندلس إسبانيا من احتلال موانئ عديدة من السواحل الجزائرية من بينها مرسى الكبير سنة 1505. وخلال هذه الفترة كان الأخوان عروج و خير الدين بربروس يجوبون البحر المتوسط لحماية و مواكبة اللاجئين المسلمين الفارين من القمع الصليبي بالأندلس إلى بلاد المغرب. تمكن الأخوان بربروس خلالها من صد الهجمات الاسبانية المتكررة جاعلين من الجزائر أيالة للباب العالي.
قوة بحرية رائدة في العهد العثماني
كانت البحرية الجزائرية خلال العهد العثماني قوة بحرية رائدة تحت إمرة بحارة بواسل الأخوان عرّوج و خير الدّين بربروس و العلج علي، حيث عملت على حماية مدينة الجزائر و كذا السفن الدولية العابرة بالبحر المتوسط مما اضطر الأسبان إلى التنازل عن وهران و مرسى الكبير سنة لصالح أيالة الجزائر.
بعد انهزام الأسطول الجزائري في معركة نافرين سنة 1827 و سقوط مدينة الجزائر في يد الاحتلال الفرنسي سنة 1830، شنت إدارة الاحتلال الفرنسي حملة بحرية تجاه الغرب انتهت باحتلال مرسى الكبير سنة 1831 بعد مقاومة شرسة من لدن أهالي المنطقة.
خلال سنوات الثلاثينيات من القرن المنصرم، أولت إدارة الاحتلال الفرنسي عناية فائقة لقاعدة مرسى الكبير، حيث بذل كل من وزير و قيادة أركان البحرية مساع حثيثة لغرض اعتماد النص القانوني لشهر جويلية 1934والذي يضع قاعدة مرسى الكبير في خانة المنفعة العمومية. شرعت السلطات الاستعمارية بدءا من سنة 1936 في مباشرة أشغال واسعة النطاق لكنها لم تستكمل إلا بعد الحرب العالمية الثانية في إطار ما يعرف بالحرب الباردة، بسبب تصعيد توتر الوضع الأمني في البحر المتوسط، عكف خلالها كل الوزراء و رئاستي الأركان دون إعطاء أدنى اعتبار لتكاليف الأشغال لتجسيد مشروع القاعدة البحرية العسكرية، غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 وقف حائلا دون تجسيد تلك المرامي.
كانت قاعدة مرسى الكبير بتاريخ 3 جويلية 1940، مسرحا لصدام عنيف و خطير نجم عن اختلاف مأسوي بين بريطانيا و فرنسا، تمثل في قنبلة البريطانيين لعمارة بحرية فرنسية بعد أن رفضت التحذير البريطاني الأخير يلزم الطرف الفرنسي بوقف القتال أو مواصلة الحرب ضد ألمانيا و الذي انتهى بمقتل 1300 بحارا فرنسيا.
في خريف سنة 1943، رست السفينة القتالية "لويا " ذات حمولة 50 ألف طن، على متنها الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلت، الذي كان في طريقه إلى إيران للمشاركة في مؤتمر طهران بمرسى الكبير و الذي يمكن اعتباره المرفأ الوحيد في إفريقيا الشمالية الذي يمكنه استقبال بعجالة،حافة سفينة برصيف مرفأ، سفينة بذالك الحجم.
تجلت الأهمية الإستراتيجية لقاعدة "مرسى الكبير" مع مرور الوقت أكثر فأكثر، ففي سنة 1945، تنامت وتيرة الاستثمارات حول أشغال بحرية و أخرى تحت الأرض في غاية الأهمية، جعلت مرسى الكبير القاعدة البحرية العسكرية الأولى لفرنسا الاستعمارية و المرفأ الأول في البحر الأبيض المتوسط الواقي من الإشعاعات الذرية عن جدارة و استحقاق. أعيد النظر سنة 1950 في الطراز المعماري لقاعدة "مرسى الكبير"، حيث كرس لإنجاز الرصيفين الشمالي و الشرقي بسبب تقليص في الميزانية.
شهدت الفترة من اندلاع الثورة التحريرية الكبرى سنة 1954، إلى غاية الاستقلال، تقليصا كبيرا في الميزانيات المخصصة للبحرية الفرنسية، و التي تم تخصيصها لفائدة القوات الأخرى المشاركة في الحرب. في غمرة هذه الأحداث، حققت الجزائر وحدتها الترابية والسياسية كدولة و أمة بعد استقلالها في 5 جويلية 1962 بعد تضحيات جسام استشهد خلالها مليون و نصف مليون شهيد من خيرة أبناءها. وتخليدا لهذه الذكرى التاريخية المجيدة نترحم على أرواح شهداءنا ومجاهدينا الأبرار الذين لم يرضخوا يوما للاحتلال، بل ضحوا بالنفس والنفيس للدفاع عن الوطن من اجل استرجاع السيادة الوطنية وكانوا يؤمنون بأن ما أخذ بالقوة لن يسترجع إلا بالقوة.