المجاهد الرمز سليمان بن طوبال من الرموز الوطنية التي تركت بصمتها في التاريخ الثوري للجزائر وساهم في هندسة مؤتمر الصومام و كان مفاوضا شرسا مع الروس، وتعود ذكرى وفاتها الـ 12 و الجزائر تحتفي بالذكرى المزدوجة لهجومات الشمال القسنطيني وانعقاد مؤتمر الصومام .
حول هذه الشخصية التاريخية أكدت الدكتورة و الباحثة نريمان سعدون من جامعة الجزائر قائلة : في عيد المجاهد تعود ذكرى وفاة أحد الأبطال المجاهدين الذين شاركوا في صنع تاريخ ثورة الجزائر، فلقد توفي الفقيد في 21 أوت 2010 بمستشفى عين النعجة العسكري بالعاصمة بعد فترة طويلة من المرض وتم دفنه في مربع الشهداء لمقبرة العالية، والشيء الذي شدني وأنا أبحث في مساره الثوري، مشهده عندما وقف أمام رئيس الاتحاد السوفياتي نيكيتا خروتشوف، الذي كان يتعامل مع الوفد الجزائري بنوع من التعالي والشعور بالعظمة، فثارت في نفسه مشاعر العزة والكبرياء، واستاء في الوقت نفسه من تصرفات مرافقه فرحات عباس البرجوازية، التي تتبنى التقاليد الأوروبية في اللباقة المبالغ فيها، فما كان منه إلا أن خاطب الرئيس السوفياتي بهدوء قائلا: "إنني لست سوى فلاحا من الجزائر، ولم أظن يوما إني سأقف بين يدي الرجل العظيم رئيس الاتحاد السوفياتي، ولو أن شخصا أخبرني بذلك من قبل ما صدقت، ولكني الآن أمامك، فلا تكلمني هكذا، بصفتي شخصا، إنك الآن تكلم شعبي الذي أمثله"، فاندهش نيكيتا، وعدل من جلسته وغير من أسلوبه، و لم يكن إلا البطل الكبير سليمان بن طوبال، قائد الولاية الثانية برتبة عقيد، شارك في مفاوضات الروس وايفيان الثانية، مظهرا قدرات تفاوضية رهيبة دون تفريط في مظاهر السيادة والاستقلال الوطني.
و العقيد سليمان بن طوبال، المدعو "سي لخضر" و"سي عبد الله"، هو من مواليد مدينة ميلة سنة 1923، عاش طفولة قاسية، بين الفلاحين والشعب الذي أنهكه الفقر والظلم الاستعماري، كبر قلقا بسبب كل ذلك، وبدأ منذ شبابه المبكر يبحث عن طريقة للخلاص، فكان حزب الشعب الجزائري متنفسه، وعمره لم يتجاوز بعد السابعة عشر، وبدأ نضاله في بداية الأربعينيات، في ظل واقع مزر فرضت من خلاله الحرب العالمية ظروفا قاسية أخرى إلى ما كان يعانيه الجزائريون من قبل.
تضيف محدثتنا : " طموح الشاب سليمان كان أكبر من مجرد النضال وانتظار أن تمن فرنسا على الشعب بالاستقلال إذا ما انتهت الحرب يوما، تلك الحرب التي لم تعن شعبه أبدا، فقد كانت تدور في أرض بعيدة وبين شعوب تختلف عن الجزائر لغة ودينا وانتماء، هذا الشعور القوي تعزز بعد مجازر الثامن ماي1945، التي ارتكبتها قوات الاستعمار ضد أزيد من 45 ألف جزائري فقدوا حياتهم برصاصهم".
انخرط بن طوبال مبكرا في صفوف حزب الشعب الجزائري كمناضل، وعند إعلان ميلاد المنظمة السرية في 1947 كان أحد أعضائها النشطين في منطقة قسنطينة خاصة خلال فترة (1947 ـ 1948) وظل على هذا الحماس والهمة إلى غاية اكتشاف وتفكيك المنظمة السرية في مارس 1950 بعد قضية تبسة، أصبح بن طوبال كالكثير من رفاقه مطلوبا بإلحاح من قبل السلطات الاستعمارية ، ولقد نجا من الاعتقال بأعجوبة عقب اكتشاف أمر المنظمة الخاصة، فقد تمكن بن طوبال من الفرار إلى جبال الأوراس المنيعة، والتحصن فيها مع عدد من المناضلين المبحوث عنهم، وهناك واصل التدرب والتحضير مع المرحوم رابح بيطاط وحباشي، مشاطي وبرجم، وفي الأوراس أيضا احتك بمناضلين كبارا آخرين، منهم مصطفى بن بولعيد، بشير شيحاني، عاجل عجول و غيرهم من أبطال الجزائر ، وقد اصدرت السلطات الفرنسية في حقه الحكم غيابيا سنة 1951، في إطار محاكمات أعضاء المنظمة الخاصة.
مهندس هجومات 20 أوت1955 التاريخية
بعد تكوين اللجنة الثورية للوحدة والعمل كمرحلة سابقة في الإعداد للثورة المسلحة وظهور حتمية الالتقاء للنظر في الوضعية التي وصلت إليها البلاد وجه محمد بوضياف نداء لابن طوبال لحضور الاجتماع التاريخي الذي احتضنه منزل المناضل إلياس دريش بالمدنية، وهكذا أصبح سي عبد الله أحد أفراد مجموعة الـ22 التاريخية التي اتخذت على عاتقها في لحظة حاسمة من تاريخ الأمة الجزائرية قرار تفجير الثورة وإعلان العصيان العام.
ففي جوان 1954، شارك سي لخضر في اجتماع لجنة الـ22 بالجزائر العاصمة، وكان أحد مفجري الفاتح من نوفمبر بالولاية الثانية، إلى جانب القادة ديدوش مراد ونائبه زيغود يوسف، وكان بن طوبال مسؤولا عن منطقة العمليات القتالية التي تضم جيجل، الشقفة، الطاهير والميلية إلى غاية قسنطينة. وواصل عمله الفدائي بصعوبة أمام قلة السلاح والتجنيد في الشهور الأولى من الثورة، التي انطلقت في المنطقة الثانية وعرفت في أيامها الأولى فاجعة فقدان قائدها مراد ديدوش، الذي استشهد في جانفي 1955، لتعود قيادة الكفاح إلى نائبه الشهيد يوسف زيغود، الذي كان بن طوبال مساعده المباشر.ولفك الضغط الكبير والتمركز المكثف لقوات العدو على المنطقة الأولى (أوراس النمامشة) ، كان بن طوبال أحد مهندسي هجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955 التي أحدثت ارتباكا ورعبا كبيرين لدى جيش العدو والمعمرين ، أي بعد 9 أشهر من ولادة الثورة المظفرة، لتفك الحصار عن أهم مناطق الجهاد في الجزائر، لذلك فإن الكثير من المؤرخين قد أطلقوا على ذلك اليوم اسم "يوم الانطلاق الفعلي بالمعنى الشعبي للثورة الجزائرية".
لقد انتقم الاستعمار الفرنسي من الأهالي بعد هزيمته النكراء على يد قلة قليلة من المجاهدين لا يملكون غير بنادق صيد ومعدات قتال بسيطة، وهو الذي يملك الآلاف المؤلفة من الجنود المدججين بأحدث الأسلحة، فسجل التاريخ سقوط أزيد من 12 ألف شهيد وشهيدة أغلبهم من المدنيين العزل، ولقد كان ذلك ضربة قوية إلى المشاعر الشعبية المتعاطفة مع الثورة، إلا ان تلك الهجومات قد قضت على القوة الثالثة، وجذرت الصورة نهائيا ووضعتها في نقطة اللاعودة، باعتراف الحاكم العام جاك سوستال، الذي صاح قائلا: "لم يبق إدماج.. إنها الحرب الكاملة"، وهذا ما خفف عن المواطنين وشحذ عزمهم على مواصلة نصرة الثوار.
وعندما تقرر عقد مؤتمر الصومام ، تضيف الدكتورة سعدون ، أن المجاهد بن طوبال كان أحد أعضاء وفد الشمال القسنطيني إلى المؤتمر الذي قاده زيغود يوسف. وتجمع الشهادات أن زيغود قبل انتقاله الى الأوراس عقد اجتماعا لإطارات الولاية الثانية، حدد فيه المسؤوليات وأقر بأن يكون بن طوبال قائدا للولاية في غيابه، وكان ذلك يعني تزكيته لقيادة الولاية في حال استشهاده، كان بن طوبال محل تزكية إطارات الولاية فهو نائب زيغود ورفيق نضاله، ومع ذلك لم تكن مهمته في قيادة الولاية الثانية سهلة بعد استشهاد زيغود من سبتمبر1956 إلى أفريل 1957، كان يتوجب إرساء التنظيمات التي نص عليها مؤتمر الصومام ومجابهة مخططات العدو، وتفعيل التنظيم السياسي والعمل الثوري.
لقد أصبحت الولاية تضم 5 مناطق، وتشرف على مصالح أسهمت في تطوير الهياكل العسكرية والسياسية والاجتماعية والإدارية، وقد حرص بن طوبال على مراقبة تلك المناطق والمصالح واستفاد من الإطارات المثقفة أمثال ابن بعطوش وعلي كافي وبوبنيدر و غيرهم ، وهكذا أصبحت الولاية الثانية ولاية نموذجية عندما تقرر انتقال بن طوبال مع عضوي لجنة التنسيق والتنفيذ كريم بلقاسم وبن يوسف بن خدة في أفريل 1957 باتجاه تونس.
وخلال صائفة نفس السنة أصبح عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ ، وبعد ذلك تفرغ للمهمة الأساسية التي كلف بها وهي مسؤوليته عن الشؤون الداخلية والتي تعني تنظيم فيدراليات جبهة التحرير الوطني بكل من فرنسا، تونس والمغرب. وقد احتفظ بهذه المسؤولية ضمن التشكيلة الأولى للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية طيلة سنتي 1958-1959 وفي التشكيلة الثالثة للحكومة المؤقتة التي ترأسها بن يوسف بن خدة اصبح بن طوبال وزيرا للدولة دون حقيبة. كما كان عضوا في الوفد الجزائري الذي شارك في مفاوضات الروس وايفيان الثانية التي توجت أشغالها بإعلان وقف إطلاق النار.
وبعد الأحداث التي أعقبت إعلان الاستقلال والمعروفة بأحداث صائفة 1962، تم سجن بن طوبال في قسنطينة قبل أن يطلق سراحه ليعود إلى العاصمة ، ولم يأخذ بن طوبال أي منصب وزاري أو حكومي ، واكتفى بالعمل مديرا لمركب الحديد والصلب بعد الاستقلال ورئيسا لهيأة عربية في المجال نفسه، ثم لزم فراش المرض أزيد من 10 سنوات، حتى وفاته عن عمر يناهز 87 سنة، وقد شارك لخضر بن طوبال بحنكته وتجربته السياسية في مفاوضات هامة دون تفريط في مظاهر السيادة والاستقلال الوطني.
